فشلت جميع المبادرات التي أطلقتها مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية واجتماعات رجال الأعمال في سورية لدعم الليرة وتصحيح مسار الهبوط الذي سلكته على مدار السنوات الماضية، حتى وصل سعر الصرف أمام الدولار إلى مستوى 950 ليرة نهاية 2019 ولامس 1050 ليرة في 13 كانون الثاني 2020 ليقفز إلى 1150 أمس الإثنين، وانعكس الهبوط في قيمة الليرة ارتفاعاً عاماً في أسعار السلع والخدمات لتضغط أكثر على المستوى المعيشي للمواطن.
لجأت حكومة الأسد أخيراً إلى الوعظ الديني للتخفيف من وطأة ارتفاع الأسعار والحؤول دون تدهورها أكثر، إذ حملت مبادرة لوزارة الأوقاف شعاراً خاطب التجار قائلا: “الدين أخلاق.. زكاتك خفض أسعارك”، وهي ليست المبادرة الأولى للحكومة، إلا أنها الأولى من حيث مصدرها، إذ سبق لمبادرات مجتمعية مثل “خليها عندك تعفن” لمقاطعة بعض المواد التي تشهد ارتفاعاً جنونياً في الأسواق، وغيرها من المبادرات التي صبت في نفس الاتجاه. فإذا كانت سياسات البنك المركزي والحكومة باءت بالفشل، وبالمثل المبادرات المجتمعية السابقة، فهل تنجح مبادرة وزارة الأوقاف في كبح جماح الأسعار؟
لهيب الأسعار
في تقرير لقناة “السورية” التابعة لحكومة الأسد حول مبادرة وزارة الأوقاف، يشرح التقرير أن المبادرة “تلقى إقبالاً واسعاً من الفعاليات التجارية”، وأن هدفها “المساهمة في تخفيف الأعباء عن المواطنين في مواجهة الإجراءات المفروضة على المواطن، وأنها مبادرة مجتمعية تندرج ضمن إطار التصدي للحرب الاقتصادية ضد الشعب وتكريس القيم الأخلاقية وتخفيف أعباء ارتفاع الأسعار على المواطنين”.
لا أدري إذا كان معد/ة التقرير مقتنعاً بمدى نجاعة هكذا حملة صادرة عن وزارة الأوقاف في التأثير على الأسواق وجعل التجار والصناعيين يخفضون أسعارهم، إلا أن مسوّغات التقرير واضحة جداً ومُحقّة بالفعل، والنظر إلى الأسعار في الأسواق كافٍ لمعرفة حجم الأزمة التي يعيشها المواطن.
فصحن التبولة بات يكلف 2000 ليرة بحسب أسعار الصالة السورية للتجارة نهاية 2019، وليس بحسب أسعار سوق الحمراء أو الشعلان أو الأسواق الأخرى في دمشق، علماً أن جميع مكوناته من نتاج الأرض السورية، وإذا اتجهت ربةُ المنزلِ في دمشق لشراء سلة من الخضار والفواكه في نهاية 2019، وشراء كيلو لحم عجل وفروج وكرتونة بيض ولتر حليب وكيلو لبن، فستدفع لقاء تلك السلة 14795 ليرة.
وبلغ سعر كيلو البندورة 250 ليرة والبطاطا 375 والباذنجان 350 والبازلاء 350، أما الفواكه فسعر التفاح 600 ليرة والبرتقال 470 والجزر 300 ليرة. وفي سوق اللحوم، بلغ سعر كيلو لحم العجل 8500 ليرة والفروج 1450 ليرة وكرتونة البيض 1500 ليرة ولتر الحليب 300 ليرة وكيلو اللبن 350 ليرة.
فإذا كان أجر العامل الوسطي بعد الزيادة المُقرة في تشرين الثاني 2019 يبلغ 60 ألف ليرة تقريباً، فإن تلك السلة تمثل ربع الراتب الذي بالكاد يكفي لشراء أربع سلال فقط من تلك المكونات. لم نذكر احتياجات الملبس والصحة والمواصلات والسكن والدراسة والكماليات والأمور الأخرى، وتشير الأرقام إلى أن عائلة مكونة من خمسة أفراد بحاجة لـ 400 ألف ليرة للتواؤم مع تكاليف المعيشة.
مبادرة فاشلة وحكومة مفلسة
فشلت السلطة ممثلةً بمؤسساتها وفي مقدمتها البنك المركزي المسؤول الأول والأخير عن العملة والتضخم عبر الإجراءات المتبعة في ضخ عملة صعبة والرقابة والأدوات الأخرى في الدفاع عن العملة واستقرار الأسعار، فأحيل الحل إلى رجال الأعمال وشركات تتبع بشكل أو بآخر للدائرة المقربة من حكومة الأسد للمساهمة في دعم الليرة عبر ضخ عملة صعبة في الأسواق، لكن مرة أخرى بدون جدوى!
لذا أحيل الحل هذه المرة لوزارة الأوقاف والاعتماد على دِين وأَخلاق التجار، فإذا كانت الحلول السابقة وصلت بالليرة إلى أكثر من ألف أمام الدولار وبالأسعار إلى هذا الحد، فقد وصلت الليرة إلى 1050 ليرة للدولار إبان طرح هذه المبادرة، ثم واصلت الارتفاع بعد ذلك، وهو ما سيجعل الأسعار في الأسواق تُحلق مرة أخرى لتصل تكلفة سعر صحن التبولة لأكثر من 2000 ليرة. وقد يأتي يوم في عام 2020 تضع ربة المنزل آلاف الليرات في مدفأة الحطب للتدفئة أفضل من الخروج وشراء الحطب بتلك الأوراق.
فالقيمة المختزنة في هذه الأوراق لم تعد تمثل مخزوناً فائضاً من العملات الأجنبية والذهب في البنك المركزي، ولا استثمارات للحكومة في العالم قد تلجأ لها وقت الحاجة، ولا نفط وغاز تبيعهما في الأسواق العالمية، ولا إنتاج سلع وخدمات أو ريع من السياحة والخدمات والوساطة، ولا ثقة من المواطن أو استقرار سياسي في البلاد يجعل العملة تستقر عند حد معين، ولم تعد هناك مساعدة من حليفي النظام، إيران وروسيا، كما في السابق، اللذين كانا يمدانه بما يحتاجه من سلع أساسية وعملة صعبة عبر خطوط الائتمان، وأخيراً حتى المنفس الذي كان يتنفس النظام منه اقتصادياً، وهو لبنان، أغلقَ أبوابهُ ويعاني اليوم من أزمة مالية.
لا شك أن هذا الوضع مؤلم بكل المقاييس على المواطن السوري، لكن الحكومة غير آبهة بتطبيق الحلول السياسية والاقتصادية وهو ما يُشعل لهيب الأسعار في الأسواق ومزيداً من هبوط في قيمة الليرة ويدفع بمزيد من التجار والصناعيين لتهريب أموالهم والخروج من البلد.
على كل حال، حكومة الأسد ليست أول حكومة تستعين بخيار الوعظ الديني والمؤسسة الدينية، فهناك دول عدة عمدت لهذا الطرح سابقاً، ففي خريف 2017 وجه وزير المالية البرازيلي هنريك ميريليس طلب مساعدة جادة لإنقاذ البلاد من الركود قائلا: “أنا أعتمد على تعاونكم. أحتاج إلى صلوات كل واحد منكم”.
لا أعرف منهجاً اقتصادياً ولا حتى الاقتصاد وفقاً للشريعة الإسلامية يقوم على إنقاذ الاقتصاد أو العملة أو أي أزمة اقتصادية في البلد عبر الصلاة والدعاء والتضرع لله والمبادرات الأخلاقية، في حين أعرف دولا مُفلسة وفاشلة لجأت إلى الدِين للخروج من أزماتها الاقتصادية، والأكيد أن تلك الدول لا زالت مفلسة وتعاني من أزمات.
كيف لنظام حُكم دمّر البلد على مدار 9 سنوات وشل اقتصادها وجعل 83% تحت خط الفقر وتسبب بخسارة 95% من قيمة عملتها وشل 60% من الإنتاج وقتل نحو مليون شخص وهجر نصف الشعب وأعاد البلاد عشرات السنوات للوراء، وتسبب بالتنازل عن ثروات البلاد لإيران وروسيا، وتوقيع عقوبات واسعة الطيف من كل حدب وصوب على البلد، كيف لنظام الحكم هذا! أن يُسخّر الدين في سبيل الخلاص من الأزمة الاقتصادية، وهو من تسبب بها.
لا شك أن بخار الماء يتشكل بعد الغليان، ويهطل المطر بعد تكاثف البخار، بحسب علاقة السبب والنتيجة فكل شيء يحدث لسبب ما. وتعافي الليرة والاقتصاد لن يحصل حتى تتم معالجة السبب الذي أدى بأزمتيهما وهو النظام نفسه وطريقة إدارته للاقتصاد والبلاد عموماً.
لا يستطيع التاجر خفض الأسعار عندما يرى أن إيراداته من المبيعات لا تحقق له أرباحاً ولا تشتري له نفس القدر من السلع التي باعها وهو يلمس تآكل القوة الشرائية لليرة وضبابية في المستقبل، والأمر في هذا الإطار لا علاقة له بدين ولا أخلاق. كان من الممكن كتابة، أن الأيام المقبلة ستثبت مدى فشل هذه الأداة ولكنها ولدت فاشلة. المهم أن الأيام المقبلة ستثبت مدى سخط الشارع السوري على الحكومة في الاستعانة بالأخلاق والدين لحل الأزمة الاقتصادية، ومدى استخفافها بعقول السوريين ومواردهم وعملتهم وتاريخهم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت