لدينا نحن السوريين الكثير من مبررات الاعتقاد بأن العالم بحكوماته ومنظوماته ومجتمعه المدني قد خذلنا وخان قضيتنا في كل مراحل حاجتنا إليه، منذ الصرخة الأولى ومرواً بنزيف دمائنا وهجرة قلوبنا إلى احتضار قضيتنا في المحافل الدولية، ولكن خذلاننا لبعضنا البعض كان الأكثر إيلاماً والأبلغ أثراً، ولاسيما التخلي الذي جاء من مؤسسات وهيئات سياسية ومنظمات إغاثية وسلطات أمر واقع تدّعي زوراً وبهتاناً تمثيل السوريين في قضية تحررهم من القتل والظلم والاستبداد، وهذه الحالة من التخلي لم تكن استثناءً في مناطق سيطرة النظام فقط بل امتدت إلى مناطق السيطرات المختلفة في جميع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الحاكم وإن كانت بنسبٍ متفاوتة من حيث استخدام العنف بأنواعه، ولكن جميع قوى أمر الواقع مارست العنف وحافظ النظام على الصدارة والتفوق الكبير في هذا المجال.
وبعد أن أصبحت آفاق الحلول الدولية والإقليمية المحتملة تضيق على حلم السوريين في نيل حريتهم والوصول إلى حقوقهم في بناء دولة مدنية ديمقراطية تتسع لهم جميعهم بكل ما يتصفون به من عراقة وتنوع، تكاثف شعورهم بالخيبة وبدؤوا يتحسسون الخطر الداهم ولاسيما بعد محاولات التطبيع البائسة من الأنظمة العربية مع نظامٍ مفلسٍ لم يعد بحوزته سوى مزارع الحشيش ومصانع الكبتاغون ومهرجانات الشعارات الكاذبة والخاوية.
وبالرغم من قتامة المشهد وسوداويته إلا أن الشخصية السورية تكافح كي تعكس هذا الشعور بالخذلان والتخلي إلى حقيقة ناصعة البياض مفادها لابد للسوريين من العودة إلى قضيتهم الجوهرية واستعادة قرارهم بأنفسهم وعدم الانسياق في الدروب الضيقة والمرسومة لهم من قِبل التابعين واللامنتمين لقضيتهم.
صحيح أن السوريين بالمجمل متساوون في أصواتهم ومسؤولياتهم تجاه قضيتهم، ولكن الوزن النوعي للسوريين في الداخل السوري هو الأكبر، ولاسيما أولئك الذين تم تهجيرهم قسرياً ويعيشون أقسى وأصعب ظروف النزوح الداخلي، ويواجهون صلف وتجبر القوى الدولية من خيامهم المُشرعة للرياح، ويعانون الظلم من ذوي القربة “وظلم ذوي القربة أشدُ مضاضةً على المرء من الحسام المهند”، هل يمكن أن يكون في صوتهم وعلى موقفهم بذرة الأمل؟
في الأيام القليلة السابقة عقدت هيئات وشخصيات ثورية في مناطق شمالي سوريا “المؤتمر الثوري العام” تحت شعار “معاً لإسقاط نظام الأسد” وذلك بهدف إيجاد حالة تمثيل أفضل للثورة السورية، وحضر المؤتمر طيف واسع من الشخصيات السورية الثورية من داخل سوريا ومن خارجها، وجاء المؤتمر على خلفية الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مناطق شمال غربي سوريا الرافضة لخطوات التطبيع مع النظام الحاكم والساخطة على الأداء الهزيل لمؤسسات المعارضة الرسمية، واجتمع السوريون هناك على ميثاق عمل ثوري مشترك تضمن مبادئ أساسية هي: وحدة سوريا، شكل الدولة السورية المنشودة، مصدر السلطات، المساءلة والشفافية، المشاركة في الحل السياسي، دور المرأة السورية، الموقف من القرارات الأممية، الموقف من التطبيع مع نظام الأسد، التراث السوري، العلاقات الدولية، الموقف الرافض للإرهاب بكل أشكاله، والمعتقلون والمغيبون قسرياً. وخلص المؤتمر إلى تشكيل أمانة عامة منتخبة تتمتع بصلاحيات للتعامل مع كل الملفات في السياق السوري داخلياً وخارجياً.
إذاً استطاع أن يجتمع طيف من السوريين على أرضٍ سورية لمناقشة ما آلت إليه حالهم، ووجهوا رسالة مضمونها رفض مسارات التطبيع والاستسلام للنظام الحاكم وداعميه، وقالوا للسوريين وللعالم إن السوريين ما زالوا مصممين على المُضي قدماً نحو حلول ترضيهم وتحافظ على حقوقهم وكرامتهم.
بالتأكيد إن هذا النشاط الجماعي واجه الكثير من الانتقادات كما تلقى الكثير الكثير من الدعم والتأييد من شخصيات وهيئات سورية ثورية، وهو ليس النشاط الوحيد الذي يقوم به سوريون استشعروا الخطر يهدد أهدافهم وحلمهم وفقدوا الأمل بما تقوم به الشخصيات والمنظمات والمؤسسات التي تتصدر المشهد وتعمل كمعارضة للنظام الحاكم وتستخدم ذات الأدوات وتكرر نفسها طوال عقد من الزمن مما أضّر بمسار التغيير المنشود. هناك جهود تواصل وتشبيك بين الكثير من السوريين في المهجر وفي بلدان اللجوء وبين أهلهم في الداخل السوري يحذوهم الأمل بالوصول إلى تمثيل صحيح وحقيقي لجميع السوريين، وتصحيح الانحرافات التي حصلت في المراحل السابقة، والاتفاق على أن جوهر القضية يكمن في أن السوريين ما زالت لديهم الفرصة بإعادة توجيه البوصلة نحو أهداف قضيتهم العادلة وقلب الطاولة على ممثلي مشاريع الاستسلام والتطبيع المُذل مع النظام الذي دمّر سوريا وفرط بمواردها ومقدراتها، وما زال يبيع ما تبقى لداعميه من دول استعمارية وميليشيات طائفية، وأصبح وجوده عبئاً ثقيلاً على قلوب كل السوريين من دون استثناء.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت