في مقهى في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، يصدح صوت مغنية بالأناشيد السوفياتية، يرقص على أنغامها ثنائي أمام خمسين متقاعداً يتناولون وجبة مجانية بسب صعوبات جمة يواجهونها لدفع مصاريفهم.
إنه مقهى دوبرودوميك الذي يوفّر وجبات لمتقدّمين في السنّ، يعانون من صعوبات اجتماعية باتت تخلق حالة من الاستياء المتزايد في روسيا، ودفعت لانخفاض شعبية الرئيس فلاديمير بوتين في بلاده.
ورغم صعوبة التحرّك في ثاني أكبر مدينة روسية بسبب الثلوج المتجمّدة والمكدسة على أرصفتها، يبقى هذا المقهى مكتظاً بالزوار.
وتلخّص ريما أنتسيفيروفا البالغة من العمر 72 عاماً الوضع بهذه الكلمات: “الأسعار تزيد يوماً بعد يوم. لذا، فإن هذا المقهى فكرة جيدة جداً جداً”.
ويبلغ معاش تقاعد هذه السيدة 10 آلاف روبل بالشهر أي ما يعادل 135 يورو أو 150 دولار. وبعد دفع الفواتير والأدوية، لا يبقى في جيبها سوى 40 يورو لاكمال الشهر.
وتضيف “في الآونة الأخيرة، ارتفعت أسعار النقل العام”.
وافتتحت امراة الأعمال ألكسندرا سينياك وزوجها يفغيني غيرتشفيتش مقهى دوبرودوميك هذا الشتاء في سان بطرسبورغ من أجل “تقديم الشكر لكبار السنّ”.
وفي المساء، يستقبل المقهى زوارا عاديين، فيما يفتح أبوابه في الأوقات الممتدة من الظهر حتى الساعة الرابعة بعد الظهر لنحو 300 مسنّ، غالبيتهم نساء، يأتون من زوايا المدينة لتناول وجبة ساخنة والاجتماع معاً.
“عبء مالي”
وبعد النمو الذي عرفته روسيا في أعوام الألفين، بدأت القدرة الشرائية للروس بالانخفاض بشكل متواصل منذ خمس سنوات، ولم تتوقّف هذه الظاهرة حتى بعد الانتعاش الاقتصادي الذي عرفته البلاد بعد كساد عامي 2015 و2016.
ولدى انتخابه لولاية رابعة منذ عام، تعهّد بوتين خفض مستوى الفقر المنتشر في البلاد إلى النصف، لكن سرعان ما أعلنت الحكومة الروسية رفع ضريبة القيمة المضافة وسنّ التقاعد الذي يعيشه المسنّون بصعوبة وحرمان كبيرين.
ويؤكد المحلل الاقتصادي ومدير مركز التحليل الاستراتيجي “أف بي كاي غرانت ثورنتون” إيغور نيكولاييف أن “الوضع لم يكن أبداً صعباً كما الآن بالنسبة للسكان”، متابعاً “العبء الاقتصادي يثقل كاهل الناس يوما بعد يوم في كلّ المجالات”.
وبدأ قلق السكان من هذه الحالة يظهر في استطلاعات الرأي في هذا البلد الذي لا يكاد متوسط معاشات التقاعد فيه يبلغ 200 يورو.
ووفق مركز ليفادا المستقلّ للاحصاءات،، فإن 61% من الروس حالياً “يشعرون بالعار من الفقر المزمن وعدم الأمان” في بلدهم، مقابل 56% عام 2015.
وتجاوزت نسبة الروس المتشائمين من الوضع في بلدهم (45%) نسبة أولئك المتفائلين للمرة الأولى منذ أواخر عام 2013.
ونسبة شعبية بوتين، التي بلغت قبل عام 80% وحافظت على مستوى مرتفع في السنوات الماضية، انخفضت إلى 64% في كانون الثاني/يناير وهو أدنى مستوى منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
بوتين يفرج عن مساعدات
يقول مدير مركز ليفادا ليف غودكوف لوكالة “فرانس برس”: “إن الاستياء وصل إلى الأقاليم التي عادةً ما تكون أكثر تأييداً ووفاءً للسلطة”.
وبحسب غودكوف فإن الاستياء “مرتبط برفض الدولة تقديم منح اجتماعية واستخدام التمويلات الموجهة أصلاً للسكان في مشاريع جيوسياسية، بالإضافة إلى انخفاض قيمة المداخيل الحقيقية”.
وانخفضت المداخيل الحقيقية بنسب تتراوح بين 11 و14% منذ عام 2014 لدى ضمّ شبه جزيرة القرم، بحسب غودكوف، الذي وصف الحالة بأنها “قاسية على أصحاب المداخيل المتوسطة”.
وفي خطابه أمام البرلمان في منتصف شباط/فبراير الماضي، أعرب بوتين عن قلقه ازاء الفقر الذي يلامس 19 مليون شخص تقريباً، معلناً عن منح اجتماعية بقيمة 1,3 مليار يورو. وتعهّد للروس بأن الوضع سيتحسّن “ابتداءً من هذا العام”.
لكن على المدى القصير، يجد الروس أن أسعار المواد الغذائية ترتفع بسرعة مع رفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 18 إلى 20% في الأول من كانون الثاني/يناير.
وتصاعدت نسبة التضخم إلى 5% الشهر الماضي، وذلك خلال عام واحد فقط، وبلغت 7,3% للفواكه والخضار.
وتقول غالينا ميخالينا في مقهى دوبرودوميك وهي تؤشّر إلى المتقاعدين الذين يستفيدون مثلها من الوجبات المجانية، “انظروا حولكم، هؤلاء الأشخاص لا يبدو عليهم أنهم مهمّشون”.
وعن 73 عاماً، تقبض هذه المهندسة السابقة راتبا تقاعديا يبلغ 12 ألف روبل أي 160 يورو. ورغم زيادة راتبا بألف روبل منذ مدة قصيرة، إلا أن ميخالينا تقول إن “الأسعار ترتفع أسرع بمرتين أو ثلاث”.
وتتابع بمرارة “من المحزن ان تعمل طوال حياتك لتصل في النهاية إلى مرحلة تسعد بها بالطعام المجاني”.
وتقول إنها تتردد “أحياناً بشراء الخبز”، مضيفةً “لجيلنا عقلية خاصة، لا أشعر بالراحة بتناول الطعام المجاني. أفضّل العطاء لا الاخذ، لكن هذه هي الحياة”.