يروي من حضر معارك “درع الفرات” ضد تنظيم “داعش”؛ أنهم تقدموا ليلاً باتجاه احدى القرى التابعة لحور كلس و اسمها بريغيدة؛ و بعد ساعة استعصت بعض الجيوب في القرية؛ ثم اتت الأوامر من غرفة العمليات المشتركة للفصائل للمجموعات المقتحمة بالانسحاب؛ فما كان من أحد العناصر المجهول الاسم و المجهول الفصيل، إلا أن يرفض الانسحاب مبرراً ذلك بأنه جاء ليقاتل لا لينسحب ؛ يتابع راوي القصة فيقول: رأيت في عينيه اصراراً و كأن لديه ثأراً مع تنظيم “داعش”؛ و رأيته هادئاً يعرف ماذا يريد و كنت قائد مجموعته و كان الأمر بالانسحاب سريعاً فما أعرف ما علي فعله أمام اصراره على البقاء؛ فأكملت له مخازن ذخيرته من ذخيرتي الخاصة (ويقول كان من عادتي أن كل مخزن من مخازني أختمه بخمس طلقات خطاط مضيئة) و تركناه على حسب ارادته في القرية و نفذنا أمر الانسحاب، و ما حصل أنه على الأغلب لاحظت “داعش” أمر انسحابنا فعادت الى القرية؛ و بدأت الاشتباكات مع هذا البطل المجهول؛ و كنت اراقب الاشتباك من بعيد؛ حيث أن الليل يكشف لي مكان خروج طلقات الخطاط؛ فأراه يناورهم من أكثر من مكان يكر؛ و ينسحب حتى أعجزهم؛ و استمرت هذه المناوشات التي يكشفها لي ظلام الليل الى ما قبل الفجر؛ يتابع صاحبنا يقول: و أنا اعرف عدد مخازني فكنت أعد المخازن المتبقية لديه؛ و عندما اقتربت ذخيرته من النفاذ بدأ يقتصد باستخدامها؛ و بعد ساعة هدأت الاشتباكات تماماً، و لم نعد نسمع صوتاً فعرفت مصيره…و لكن صدى القصة ظل صاحبنا يردده كلما مر بهذه القرية.
ما ذكرني بهذه القصة، قصة الشهيد أحمد الحصري، باقتراب النظام من بلدته معرة النعمان التي ترعرع فيها، ومع تخلي الفصائل عن الدفاع عنها، لم يجد من يدافع عنها الا ثلة قليلة من أبنائها، ببنادقهم الخفيفة التي لا تغني عنهم و عنها شيئاً، و مع مغيب شمس يوم الثلاثاء ودعت آخر المجموعات من ابناء المعرة بلدتهم و نادوا على احمد لكنه رفض؛ لقد رفض أيضاً صوت أولاده و زوجه و أمه وأهله و مستقبله و لبى نداء آخر…لقد اختار الشهادة عن سبق إصرارٍ و ترصدٍ… نعم … ليكرر على مسامعنا الدرس و يدخل التاريخ و يحملنا أمانةً.
هذا الدرس يعيد كثيرٌ من الابطالِ تكراره بعضهم مجهولون لا يسجلهم أي تاريخ –كما هو حال شهيد بريغيدة- و بعضهم يذكره أهل قريته و بعضه يذكره اهل بلده جميعاً ؛ منهم من هو مثقف يحمل نظرية تغيير و منهم إنسان بفطرة ترفض الذل فقط لا غير، منهم مسؤول كبير –كيوسف العظمة وزير الحربية آنذاك – و منهم مواطن عادي يتقاسم الهم مع عموم الشعب كما صاحب حدثنا اليوم احمد و هذا لا يقلل من أهمية الانجاز …فلكل درس من تلك الدروس رسالته الخاصة و فئته المستهدفة .
إن تحليل الأحداث من الجزئيات للعموميات؛ و من الحوادث الخاصة لاستخلاص قواعد عامة، يعطينا دلائل قاطعة لا تقل أهمية و قطعية عن التحليل الكلي العام، فمثلاً إن وجود أفراد مؤمنين بالتضحية من أجل أن تبقى الفكرة وقادة ناصعة سامية دليلٌ قاطع لا يقبل الشك على أن كفة الميزان الاخلاقي لا تزال راجحة باتجاه الثوار لا باتجاه النظام و الشبيحة و الميليشيات الطائفية والقوات الاجنبية الحليفة لهم؛ و لا عزاء للمتسلقين على الثورة و الجبناء؛ و إن رجحت الكفة العسكرية و المادية لصالح النظام مؤخراً فهو رجحان وهمي مؤقت لا عبرة له.
ليس هذا فحسب بل إن الدرس مكثف و عميق و يحمل رسائل عديدة؛ أهمها أن الثورة السورية تجاوزت مرحلة السيطرة العسكرية المادية و سكنت قلوب الاف الشباب المستعدين لبذل دمائهم رخيصة في سبيل سمو الفكرة و الفكرة فقط؛ كما أن المعركة انتقلت للجيل الثاني الذي سيفكر حتما بتجاوز شروط و محددات المعركة السابقة.
فما فعله يوسف العظمة في ميسلون لا يقاس بأهميته العسكرية؛ و لا ينحصر بزمانه؛ و لا ينحصر الفخر به بشخوصه؛ و لكنه أداء الواجب، و تسجيل الموقف، حيث يجب تسجيله، و حيث يتراجع الاخرون الذين من المفترض الا يتراجعوا، و سمو للفكرة و رفعة و تطهير للأرض.
لقد افتخرت قناة anna الأبخازية الناطقة بالروسية و قناة سما التابعة للنظام، بدخول معرة النعمان خالية الا من أحمد، و بأن الدبابات و الطائرات دكت المبنى الذي كان به أحمد، و استطاعت بعد ثلاث ساعات دخوله، و بثت صور جثته بعد استشهاده ثم و قد علقوها إلى احدى الدبابات، و ما درى الغزاة و الطغاة أنهم بذلك يفرحون بنهايتهم؛ و أنه دلالةٌ على إفلاسهم وعجزهم؛ و أن القوة الغاشمة ما حولت؛ و لن تحول باطل الى حق أبداً.
و كما أن الدروس لها معلم و تلاميذ و وظائف و واجبات و درسنا أيضاً له هذه الاركان، فالشهيد هو المعلم و الملهم و هذا الدرس بالأفعال لا بالأقوال و التنظير و يكتب بالدماء النفيسة لا بالحبر و الورق؛ و هنا في قصة الشهيد أحمد الحصري بقيت الوظائف و الواجبات فلم ينتهي الأمر؛ بل سيتحرك التفكير و يعيد طرح الأسئلة ملهماً الشباب و مشكلاً مصباحاً على درب الثورة فليسأل كل منا نفسه ماذا استفاد من الدرس و ماذا عليه أن يفعل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت