من حيث الشكل، كانت العقوبات الأميركية الأخيرة ضد شخصيات محسوبة على نظام الأسد، بعثاً لقانون “قيصر”، الذي ظن مراقبون أنه دُفِن تماماً، على مدار أكثر من سنتين، دون صدور أية حزمة عقوبات جديدة، بموجبه، منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وبذلك يكون بايدن قد استجاب للانتقادات التي تصاعدت مؤخراً، من جانب نخبة من المشرّعين والخبراء في واشنطن، جراء تجاهله لقانون “قيصر”، وعدم التلويح به -كما كان يحدث في عهد الإدارة السابقة- ضد أية محاولة لإعادة تأهيل النظام، إقليمياً، بصورة لا تنسجم مع الإرادة الأميركية.
هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون والتوقيت، فـ “قيصر”، الذي وصفه ساسة وإعلاميون غربيون، في الأيام القليلة الماضية، بأنه أقوى أداة ضغط أميركية، في الملف السوري، من المرجح أن يعود إلى الكواليس مجدداً، لكن هذه المرة، لصالح قانون آخر، يتناسب بصورة أكبر مع التعقيدات المُستجدة في الإقليم، من وجهة نظر صنّاع القرار بواشنطن.
إذ، ورغم أن بيان الخزانة الأميركية أدرج أسماءً معاقبة في الحزمة الأخيرة، تحت بند عقوبات “قيصر”، إلا أن طبيعة نشاط المُستهدفين، تحيلنا إلى قانون مكافحة المخدرات الخاصة بعائلة الأسد، والصادر رسمياً، في واشنطن، نهاية العام الفائت، والذي من المُرتقب أن يدخل حيز التنفيذ، مطلع الصيف القادم.
وفيما يتهم ساسة ومراقبون، إدارة بايدن، بأنها تفتقد لسياسة خارجية متماسكة حيال سوريا، تسير النخبة التشريعية والتنفيذية الأميركية، ومنذ العام الماضي، نحو رسم استراتيجية ترتكز على تفكيك شبكة صناعة المخدرات والإتجار بها، المرتبطة بالنظام وحزب الله، ومن ورائهما إيران. السير بهذا الاتجاه وإن كان يتم ببطء شديد يتناسب مع بيروقراطية صنع القرار في عاصمة “الدولة العظمى”، إلا أنه يعبّر عن رؤية مستجدة لدى صنّاع القرار في واشنطن، حيال ترتيب الأولويات في الملف السوري، وإحلال أولوية مكافحة “المخدرات”، لتصبح مكان أولوية مكافحة “الإرهاب” المتمثّل في تنظيم “الدولة”.
ورغم أن الاستراتيجية المتكاملة المتعلّقة بكيفية تنفيذ قانون مكافحة “كبتاغون الأسد”، لم تصدر بعد. إلا أن معالمها الأولية أصبحت جليّة. فعلى صعيد الخطاب، والتحرك الدبلوماسي، تركز واشنطن، وحليفتها لندن، على تبيان حجم هذه التجارة، وخطرها الإقليمي، بل والدولي. وهو ما كان واضحاً في تصريحات المسؤولين في البلدين، على هامش صدور حزمة العقوبات الأخيرة. وفيما تم الحديث عن تجارة بمليارات الدولارات، من جانب الأميركيين، تحدث نظراؤهم البريطانيون عن تجارة بعشرات المليارات، وعن دور أكثر خطورة من المافيا المكسيكية، على صعيد نشر الإدمان في العالم.
أما على الصعيد الميداني، فكان استهداف الأميركيين لمقار ميليشيات إيرانية، في دير الزور، في 8 من آذار/مارس الجاري، تضمنت منشأة رئيسية لتصنيع وإنتاج المخدرات، بعيد أيام من زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي، لـ “شرق الفرات”، مؤشراً جليّاً على أن قضية مكافحة “المخدرات” المرتبطة بإيران وحليفها الأسد، أصبحت مسألة جدّية جداً، من منظور صانع القرار الأميركي. وذلك قبل أن تندلع جولة المناوشات الإيرانية – الأميركية الأخيرة –الأسبوع الماضي-، والتي كانت الأعنف حتى الآن.
أما من حيث التوقيت، فكان صدور حزمة العقوبات الأخيرة، بعيد أسبوع فقط، من اجتماعٍ شهدته العاصمة الأردنية عمّان، ضم مسؤولين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وآخرين من السعودية والإمارات وتركيا وقطر والأردن ومصر. ناقش الاجتماع مبادرات “التطبيع” مع النظام السوري، وروّجت الأردن خلاله لمبادرة جديدة لها، تقوم على تخفيف العقوبات ضد الأسد، لقاء انخراطه التدريجي في “الحل السياسي”. ووفق المعلومات المتداولة عما دار في ذلك الاجتماع، فقد أوصلت الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، رسالة إلى العرب، مفادها، أنها ما تزال تفضّل إبقاء طوق العزلة محيطاً بالنظام. وجاءت حزمة العقوبات الأخيرة، المعنونة بـ “قيصر” –شكلاً-، وإشارتها الجادة إلى خطر المخدرات المحسوب على الأسد –مضموناً-، بوصفها رسالة قوية للدول العربية، خاصة منها، الأردن والخليج، المتضررين الرئيسيين من هذه التجارة.
لا يعني ما سبق، أن واشنطن بصدد معاقبة الدول العربية التي ستُطبّع مع النظام. ذلك أن قانون “قيصر”، لا يفرض عقوبات أساساً جراء التعامل الدبلوماسي مع الأسد. لكنه يلوّح بفرض عقوبات على ممارسة الأعمال التجارية معه. ومن هنا، تأتي قيمة التلويح مجدداً بـ “قيصر”، الذي يعني أن “الفيتو” الأميركي، على دعم النظام اقتصادياً، ما يزال قائماً.
لكن واشنطن، ليست في وارد استخدام الإجراءات القسرية لثني حلفائها “العرب” عن الانفتاح على الأسد، لأن هكذا إجراءات سترتد عكساً على النفوذ الأميركي المتراجع أساساً، لصالح التقدّم الكبير للنفوذين الصيني والروسي، في المنطقة. لذلك تركّز واشنطن على ملف “المخدرات”، بوصفه قاسماً مشتركاً يمكن الحوار بموجبه، مع “الحلفاء العرب”، وإقناعهم بخطر التنسيق مع النظام، دون تنازلات جدّية منه، تحديداً، في هذا الملف. وهو أمر، ليس بالسهل بالنسبة للنظام، نظراً لأن إيراداته من هذه التجارة، تشكّل مورد حياة، بالنسبة له. ناهيك عن كونها مصدراً لتمويل ولاء ميليشياته ومقاتليه، وقادته.
وقد تكون أبرز دلالة لحزمة العقوبات الأميركية الأخيرة، هي أن سياسة أميركا ارتدت إلى الوراء. وبدلاً من دفن “قيصر”، كما كان يتم الترويج له، فالأرجح أن واشنطن ستدفن استراتيجية “خطوة مقابل خطوة”، التي كانت هي ذاتها، قد تبنتها تجاه النظام، قبل بدء الحرب في أوكرانيا. فخيارات صانع القرار الأميركي، أصبحت دفاعية، ضد تصاعد قوة إيران، والتقارب الروسي – الصيني الكبير، وحراك بعض الحلفاء في المنطقة، نحو بكين وموسكو.
لكن “قيصر”، لن يكون أداة أميركا الأقوى للتأثير في الملف السوري، في الفترة القادمة. بل سيكون قانون “مكافحة كبتاغون الأسد”، الذي سيُبصر النور، على الأرض، قريباً. والذي ستعتمده واشنطن لمقاربة مصالح “حلفائها” في المنطقة، بالطرق “الناعمة”، لا “القسرية”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت