كشفت الانتخابات التركية الأخيرة مسألة هامة، تتعلق بعمق وعي الشعب التركي بتحديد خياراته عبر صناديق الاقتراع.
هذه الانتخابات، نفت بصورة ملموسة ادعاءات داخلية وخارجية، حول مركزة السلطة بشخص الرئيس طيب رجب أردوغان على حساب النهج الديمقراطي في البلاد، الذي تمثّل بعدم قدرة المتنافسين على الرئاسة بحسم التنافس من الجولة الأولى.
الانتخابات التركية، كشفت أيضاً عن مسائل عديدة، تتعلق ببنية التحالفين الرئيسيين الذين دخلا معركة الانتخابات برؤيتين متباعدتين.
الرؤية الأولى، والتي أطلقت على نفسها تسمية “تحالف الجمهور” وتضم الحليفين الأساسيين “حزب العدالة والتنمية و”الحركة القومية”، يرتكز على مسألتين رئيسيتين، الأولى تتعلق بتعميق التنمية التركية الشاملة، والتي نقلت تركيا من مرتبة الاقتصاد الذي كان ترتيبه ما دون المئة قبل عام 2002، وأصبح عام 2019 في المرتبة 17 عالمياً.
والمسألة الثانية تتعلق بموقع تركيا السياسي العالمي المتوازن، الذي يتجنب الاصطفاف الحاد في الصراع العالمي بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة، والحلف الروسي الصيني من جهة ثانية.
الرؤية الثانية، والتي أطلقت على نفسها تسمية “تحالف الأمة”، الذي ضمّ ما يسمى أحزاب الطاولة السداسية، هذا التحالف لم يكن لديه برنامج عمل اقتصادي، يستطيع مقابلة برنامج تحالف الجمهور، إنما وضع لنفسه رؤية سياسية ارتكزت على نقطتين رئيسيتين، هما إسقاط النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني كقضية أولى، وترحيل اللاجئين السوريين دون مراعاة حقيقية للقوانين الدولية بهذا الأمر كمسألة ثانية.
تحالف الأمة، كان على استعداد لتنفيذ مطالب الغرب، بوقف برامج تصنيع الأسلحة الدفاعية، والتي تمنح تركيا حرية اتخاذ مواقفها، دون أن يستطيع الغرب التأثير عليها بمسألة التسليح الدفاعي، وقد ظهر ذلك حين أبعدت الولايات المتحدة تركيا عن الشراكة في برنامج انتاج الطائرات من صنف F35. كما ظهر حين تمت عملية سحب منظومة الدفاع الجوي الأمريكية المسماة “باترويت “بعد إسقاط تركيا لطائرة روسية خرقت مجالها الجوي.
كما أن تحالف الأمة يعتبر نفسه حليفاً للغرب، وهذا الأمر، دفع الأخير (الغرب) لمساندة تحالف الأمة في معركته الانتخابية، من خلال تصويره على أنه من يريد استعادة النظام البرلماني الذي يمثّل برأيهم جوهر الديمقراطية، والرجوع عن النظام الرئاسي الذي تم اعتماده من قبل حزب العدالة بعد انقلاب الخامس عشر من تموز عام 2016.
تحالف الأمة وضع هدف ترحيل اللاجئين عن تركيا، وفي مقدمتهم السوريين، كنقطة رئيسية في اجتذاب الناخبين، هذا الهدف تمت نسج روايات غير واقعية حوله، حيث صوّر تحالف الأمة اللاجئين كجهة مسؤولة عن مزاحمة الأتراك في سوق العمل التركي. هذا الأمر لم يكن صحيحاً، واستخدم كنقطة ارتكاز لمواجهة تحالف الجمهور.
لقد بالغ تحالف الأمة بأرقام عدد اللاجئين في تركيا، والغاية من ذلك تحميله مسؤولية الأوضاع الاقتصادية في البلاد الناجمة عن التضخم الاقتصادي، والذي أساسه ركود عالمي بسبب جائحة كورونا، وغير ذلك من أزمات عالمية، كالحرب الروسية على أوكرانيا.
إن تحالف الجمهور الذي يقوده الرئيس أردوغان، كان معنياً باستمرار تعميق وتوسيع مسيرة التنمية التركية الكبرى، حيث أعلن أردوغان في أكثر من مناسبة، بأن بلاده التي تنتهي معاهدة لوزان المجحفة بحقها عام 2023، ستبدأ مرحلة ما أسماه (قرن تركيا)، هذا يعني دفع تركيا اقتصادياً، لتحتل موقعاً متقدماً لها بين مجموعة الدول العشر الأكبر اقتصاداً على المستوى العالمي.
هذا الهدف الكبير لا يمكن إنجازه وفق رؤية الرئيس رجب طيب أردوغان بغير التحلل من سياسات التبعية للغرب، وبغير بناء القوى الذاتية للأمة التركية، وهو يستلزم توفير الشروط السياسية والأمنية له، وفي مقدمة ذلك سحق القوى المهددة للأمن القومي التركي، ومحاولة العمل على حل للقضية السورية، عبر مقاربة القرارات الدولية.
الأتراك، وعبر أكثر من عشرين عاماً في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، لمسوا واقعياً تحسن مستوى معيشتهم على كل الصعد، فلم يأكل التضخم قدراتهم الاقتصادية، لأن الحكومة كانت تدير معادلة التوازن بين الأسعار والدخل، بما يجعل الاستقرار في الحياة اليومية قاعدة لاستمرار التنمية الشاملة الكبرى.
كما أن الوضع الاقتصادي العام الذي جعل تركيا بين مجموعة العشرين الأكثر قوة اقتصادياً، هو من جعل الشعب التركي يبحث عن استعادة دوره في إدارة شؤون العالم سياسياً.
إن نجاح الانتخابات في تركيا، سيعزز من توق شعوب بلدان عربية وإسلامية في العمل من أجل أن تلعب دوراً حاسماً في اختيار أهدافها في التنمية والبناء، وسيجعل من طريقة الوصول إلى سدّة الحكم عبر صناديق الاقتراع الشفّاف هدفاً أساسياً لهم.
لهذا حاولت قوى عديدة التدخل في هذه الانتخابات عبر دعم تحالف الأمة، ظناّ منهم بضرورة إبعاد برنامج التنمية الكبرى التركي عن التنفيذ، وهذا لن يتم بغير دعمهم لمن يرى في هذا البرنامج نهاية وجودهم السياسي بعد استنفاذ دورهم التاريخي منذ ما قبل مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية.
إن مهام التنمية التركية الكبرى، لا تزال بحاجة لإتمام فصولها، وهذا يرتب على حزب العدالة والتنمية وحلفه (الجمهور) تجديد القوى الحاملة لهذه المهام، والاعتماد على قوى الشباب في إتمام إنجاز المرحلة، مما يمنع العودة إلى الخلف.
فهل سيعمل تحالف الجمهور على تجديد الرؤية باستمرار، وجذب حركة الشباب إلى معركة تطوير تركيا المستمرة، إنها الضرورة، التي لا يمكنها العيش بدون مناخات الحريات والديمقراطية في هذه البلاد التواقة لاستعادة أمجادها، بما يتفق وتطور العصر؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت