في مخيم المخزومي بمنطقة حربنوش قرب معرة مصرين بريف إدلب الشمالي، ينجذبُ المارّة نحو رائحة القهوة العربية؛ المُرّة تحديداً، التي يحضّرها الحاج فيصل أبو حسين في زاوية خيمته التي هُجّر إليها، تاركاً مكان نشأته الأصلي في منطقة جبل شحشبو شمالي حماة، إثر مخاطر القصف والعمليات العسكرية.
وكغيره من أبناء عشيرته، يحافظ أبو حسين على تقديم القهوة العربية بشكل يومي لكل من يزوره، ويقول إنه لا يستطيع التخلي عن تلك العادة التي تذكّره بأيام يحنُّ إليها.
ولا يزال الكثير من أبناء العشائر السورية، ممن طالهم التهجير إلى مناطق مختلفة في شمال غربي سورية، يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم التي حملوها معهم من مناطق نشأتهم، خاصة تلك المتعلقة بصنع وتقديم القهوة العربية في المضافات والمناسبات، لتفوح رائحة القهوة داخل الخيام التي يقطنون بها في مخيمات النزوح.
تحضير القهوة العربية..عبق برائحة النزوح
يشرح هيثم أبو أحمد طريقة تحضير القهوة بقوله “نبدأ بتحميص حبات القهوة النيئة على النار بواسطة (المحماس)، ونحركها بواسطة عصا طويلة من الحديد تشبه الملعقة الطويلة، مع الاستمرار بتحريك حبات البن حتى يتحول لونها للأشقر، ليتم بعد ذلك تبريدها بواسطة إناء يسمى (المبرادة)، وغالباً ما يكون مصنوعاً من الخشب”.
ويتابع في حديثه لـ”السورية نت”، أنه و”عندما تبرد حبات القهوة، توضع في النجر أو المهباش حيث يتم دقها حتى تصبح حباتها بحجم حبات البرغل، وبعدها نضع على النار إناءً يحتوي على الماء، يسمى الطباخ أو المفوارة، ونضيف بعد غليان الماء، البن المطحون ونتركها على النار مع التحريك المناسب حتى تتعقد القهوة ويصبح لونها مثل دبس الرمان. وبعد غليانها نتركها حتى تركد ونصفيها، بعد ذلك تنقل من الطباخ للدلة ليضاف لها حب الهال المطحون وتغلى مع الهال على النار، وبعدها يتم تقديمها للضيوف”.
وأضاف أبو أحمد، أنه من المفضل طبخ القهوة العربية على الحطب، الذي يضيف لها نكهة خاصة، حيث يتم “طبخ كمية كبيرة توضع في دلة ليتم تقديمها عبر المصب أولاً بأول”.
رمزية القهوة العربية..وعادات خاصة بها
زكريا أبو شمسي، أحد أبناء العشائر النازحين من جنوبي حلب إلى أرياف إدلب، تحدث لـ”السورية.نت” عن رمزية القهوة العربية، معتبراً أن ضيافة القهوة “المُرّة” من “العادات العربية الأصيلة والمتجذرة في التاريخ، ولا يمكن للعربي أن يستغني عنها في حله وترحاله وفي كل ظروفه”.
ويتابع أبو شمسي، أن “للقهوة العربية أدوات خاصة بها، وأوانٍ (معاميل) لتجهيزها ومراحل تحضيرها، ومن هذه المعاميل (المحماس، النجر، الطباخ، الدلة، المصب)”.
وكذلك يُطلق أبناء العشائر تسميات عدة على فناجين القهوة العربية، فهناك فنجان الهيف والضيف والكيف والسيف، ولكل فنجان رمزية ومعنى.
“فنجان الهيف يشربه المضيف (المعزب) أو من تُقدم القهوة عنده، وفنجان الضيف هو الفنجان الأول الذي يقدم للضيف تعبيراً عن احترامه وتقديره، ويمكن للضيف أن يعبر عن اكتفاءه بهذا الفنجان عن طريق هزه، وهي إشارة إلى الاكتفاء، حيث كان هذا العرف عند العرب قديماً كونهم كانوا يختارون القهوجي لايسمع ولا يتكلم، لحفظ الأحاديث التي تدور بالمجلس من باب الأمانة”، يقول زكريا أبو شمسي.
ويتابع: “أما الفنجان الثالث (الثاني بالنسبة للضيف) فاسمه فنجان الكيف، ليعدل الضيف مزاجه، وفنجان السيف يُقدّم إذا لم يكتف الضيف بالفنجان الأول والثاني، وهو أقوى الفناجين ويعني أن الضيف يضم سيفه إلى سيف مضيفه (المعزب) في السراء والضراء تحالفاً معه”.
وأيضاً لدِلال القهوة العربية أنواع: فمنها الحساوية، والعمانية، والرسلانية، والقرشية، وأقدمها وأثمنها وأجودها البغدادية التي تصنع في العراق، ويدل اسم كل نوع على مكان صنعها، باستثناء الرسلانية التي تنسب لأسرة رسلان في الشام، والقرشية التي تصنع في مكة، وسميت “الدّلّة” بهذا الاسم للتعبير عن الأنس الذي يصاحب جلسة شرب القهوة.
وبحسب زكريا أبو شمسي فإن القهوة العربية ليست فقط للشرب، والتمتع بالمذاق كباقي المشروبات، بل تتعدى ذلك لتكون رمزاً لإكرام الضيف وقضاء حوائج الناس وعابري السبيل وإغاثة الملهوف، معتبراً أن فنجان القهوة يمكنه أن يحل أكبر مشكلة ويستخدم كأداة لفض النزاعات وقبول الطلب مهما كان صعباً.
وتدل عادة وضع الفنجان على الأرض ورفض شربه، على أن الضيف يريد طلباً معيناً، مثل خطوبة أو فض خلاف أو أنه يتعرض للخطر ويريد الاحتماء بالعشيرة، ومهما كان طلبه فإن صاحب المنزل لن يرده ضمن إمكانياته.
كورونا والقهوة العربية
أثرت جائحة “كورونا” وانتشارها في مناطق إدلب وريف حلب، شمال غرب سورية، على بعض العادات المتعلقة بتقديم القهوة العربية، فأصبحت تُقدّم بفناجين مصنوعة من الكرتون صالحة للاستعمال لمرة واحدة، بهدف الوقاية من انتشار العدوى.
حيث عبّر أبو عبد العزيز، وهو وجهٌ عشائري مهجّر من ريف حماة الشمالي إلى إدلب، عن مخاوفه من كثرة ارتفاع أعداد الإصابات، داعياً في حديثه لموقع “السورية نت” إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة واستعمال المعقمات عند الدخول والخروج من الخيّام، والالتزام بتنظيف أواني الضيافة الخاصة بالقهوة “المرة” وتعقيمها بشكل مستمر، وعدم المصافحة للحفاظ على التباعد قدر الإمكان.