تعد الحملة الأخيرة التي شنتها دوريات أمنية تتبع للنظام السوري على محلات لبيع الذهب في دمشق، سابقة خطيرة قد تشكّل، لو تكررت، عامل تثبيط لجهود تنشيط حرفة صياغة الذهب العريقة في سوريا، وتحديداً، الجانب القانوني والعلني منها، لصالح ازدهارٍ أكبر للسوق السوداء، وبالتالي، المزيد من التشويه لسمعة منتجات الصايغ السوري، لدى المستهلك الخارجي.
وهذه ليست المرة الأولى التي تشن فيها، أجهزة أمنية، حملات على محلات الصاغة في دمشق أو حلب. إذ يمكن رصد أربع حملات على الأقل، منذ العام 2020. لكن الفارق كان جوهرياً، في أسباب هذه الحملة، وذرائعها، وكيفية تنفيذها. فالحملات السابقة كانت تتم بهدف جمع الإتاوات، وبذرائع التعامل بالقطع الأجنبي، وتهريب الذهب، وعدم دمغه، وصناعة قوالب لصياغته، دون إذن الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات بدمشق. وكانت المداهمات تتم بصورة مباشرة، بغية لمّ الإتاوات. وتنتهي بقيام الصايغ المستهدف، بالدفع، بعد سلسلة من المفاوضات.
أما في الحملة الأخيرة، موضوع مقالنا، ووفق ما نشره موقع “تلفزيون سوريا”، فالذريعة كانت، عدم الالتزام بالتسعيرة الرسمية. وقد انتحلت العناصر الأمنية صفة الزبائن، وهم يرتدون اللباس المدني، وكانوا يحملون كاميرات “سرّية”، يصوّرون بواسطتها المفاوضات على سعر القطع الذهبية، بهدف إثبات عدم الالتزام بالتسعيرة الرسمية. وقد أدت الحملة إلى اعتقال 20 صائغاً، بهذه التهمة. ورغم محاولة بعض الصاغة دفع إتاوة، لم يتم إطلاق سراحهم مباشرةً. ووفق التقرير، ما يزال بعضهم موقوفاً.
وكما أشرنا، فالجديد في هذه الحملة، أنها فيما بدت، تستهدف إرهاب الصيّاغ، لإلزامهم بالتسعيرة الرسمية. وكان يمكن اعتبار هذا التحرك، أمراً إيجابياً، بوصفه فرضاً للقانون، وضبطاً للأسعار، بما يخدم المستهلك. بل ربما نجد من يهلل لهذا التحرك، بناءً على ذلك، باعتبار أن فوضى الأسعار في سوق الذهب، أرهقت مُشترييه، ودفعت باتجاه نشوء سوق غير رسمية لبيع وشراء القطع الذهبية عبر السوشال ميديا، زادت فيها حالات الغش وعمليات النصب، مما هدد أكثر، سمعة الصايغ السوري، الذي ما يزال يحظى بزبائن في دول خليجية.
لكن المشكلة تبقى، في التسعيرة الرسمية، التي يريد النظام إجبار بائعي الذهب على الالتزام بها. وهي التسعيرة التي تصدر قبيل الظهيرة، أيام (السبت، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس)، عن الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات بدمشق. والتي تمثّل الجهة الرسمية التي تُدير قطاع الذهب في مناطق سيطرة النظام.
وطوال أكثر من عقد، تهاوت إلزامية التسعيرة الرسمية، بصورة شبه مطلقة، حتى أصبح البيع بأسعار فوضوية، تستند إلى سعر الدولار في السوق السوداء، وتقلبات سعر الأونصة العالمي، على مدار اليوم، هو الأمر الشائع، حتى في قلب العاصمة دمشق. نظراً لأن التسعيرة الرسمية كانت تستند إلى تقييم للدولار، أقل بكثير من التقييم الواقعي في السوق. وهو ما يعني خسارة محققة للعاملين في هذا القطاع، ستجعلهم يقفلون مشاغلهم ومحالهم. وعلى مدار العقد الفائت، وحتى ما قبل سنة تقريباً، كانت التسعيرة الرسمية للذهب، بعيدة جداً عن الواقع، وتعكس السعر الرسمي للدولار، البعيد، بدوره، جداً عن الواقع. وقد أدمنت الجمعية، إصدار بيانات التحذير التي تدعو فيها إلى ضرورة الالتزام بالتسعيرة الرسمية، بصورة شبه يومية، عبر معرّفاتها الرسمية على وسائل التواصل. لكن ذلك لم يكن يرافقه أي تحرّك جدّي من جانب السلطات، لفرض التسعيرة، فعلاً. وتحوّلت تلك البيانات التحذيرية إلى “كليشة”، لا قيمة لها في نظر أحد. تتماشى مع ذاك العهد الذي كان فيه المركزي السوري يصف سعر الدولار في السوق السوداء، بـ “الوهمي”، ويفرض سعراً رسمياً، بقيمة تقل عن نصف قيمته.
هذه الحالة تغيرت تماماً خلال السنة أو السنة ونصف الأخيرة. إذ رفع المركزي السعر الرسمي للدولار ليصبح على مقربة من سعر السوق السوداء، وأصبحت الجمعية الحرفية للصياغة تُصدر تسعيرات رسمية، تستند إلى تقييم للدولار، يقترب أكثر من سعر السوق السوداء. وفي بعض الحالات، يطابقه، أو حتى يتجاوزه. وكمثال على ذلك، وعلى مدار الأسبوع الفائت، أصدرت الجمعية تسعيرات رسمية بتقييمٍ للدولار، يتراوح ما بين 13900 و14000 ليرة سورية. وهو سعر يطابق أو يقارب السعر الرائج في السوق السوداء. لذا، ومن هذه الزاوية، قد تبدو تحركات السلطات لفرض التسعيرة الرسمية بأساليب ترهيبية للصيّاغ، أمراً مفهوماً، بل ومبرراً، لدى البعض، لولا تلك المثالب التي تنتقص من موضوعية التسعيرة الرسمية.
أولى تلك المثالب، وأبرزها، هي أن سعر الدولار في السوق السوداء، وفق المتداول في منصات رصد العملات، ليس هو السعر الواقعي تماماً. فالمنصة الأكثر شهرة، “الليرة اليوم”، تحدد “دولار دمشق” بـ 13900 إلى 14000 ليرة، على مدار الأسبوعين الفائتين تقريباً. لكن، من يطلب شراء الدولار، في السوق السوداء، لا يستطيع الحصول عليه، بهذه الأسعار. بل يضطر لدفع 100 أو 200 ليرة زيادة، مما يجعل السعر الواقعي بنحو 14200 ليرة. أي أعلى من تقييم التسعيرة الرسمية للذهب، بـ 200 إلى 300 ليرة للدولار الواحد. وفي حالة غرام الـ 21 ذهب، يعني ذلك زيادة تتراوح ما بين الـ 10 آلاف إلى 15 ألف ليرة، على السعر الرسمي للغرام الواحد. أي أن الصايغ سيخسر 10 آلاف إلى 15 ألف ليرة، في كل غرام 21 ذهب، إن التزم بالتسعيرة الرسمية. وهنا، قد نجد من يدافع عن الحملة، بذريعة أن الصاغة يحصلون على مبالغ كبيرة كأجرة صياغة، قد تصل إلى 300 ألف ليرة للغرام الواحد (نحو 20 دولاراً). ووجهة النظر هذه، مردود عليها، بأن أجرة الصياغة هي الربح الذي يحصل عليه الصايغ، بينما سعر مبيع الغرام، هو جزء من رأس المال الذي يحتاج الصايغ لاستعادته، كي يشتري على أساسه ذهباً جديداً، ليستمر بالعمل.
أما المثلب الثاني والإشكالي للغاية، في التسعيرة الرسمية، هو أنها تصدر مرة واحدة، قبيل ظهيرة كل يوم (خمسة أيام في الأسبوع). بينما السعر العالمي للأونصة يتأرجح ويتغيّر على مدار اليوم. مما يجعل الصايغ في مهب تقلبات السعر العالمي، مقيّداً في الوقت نفسه، بتسعيرة يومية مستقرة.
ونتيجة المثلبين السابقين، لم تنجح الجمعية الحرفية للصياغة، في فرض تسعيرتها الرسمية، على العاملين في هذا القطّاع. حتى بعد أن أصبحت هذه التسعيرة قريبة من الواقع. لكنها لم تصبح واقعية بشكل كافٍ لضمان مصالح الصايغ. وفيما يتشدق مسؤولو تلك الجمعية، بعراقة حرفة الصياغة بسوريا، وبالرهان على استعادة ألقها وسمعتها في الأسواق الخارجية التي كانت تستهدفها بنجاح في سنوات سابقة، تأتي الضغوط الأمنية الأخيرة لتشكّل دفعاً للعاملين في هذه الحرفة إلى أحد خيارين، إما العمل وفق آليات السوق السوداء، بعيداً عن القيود القانونية، مما يؤثر سلباً على سمعة المصوغات السورية في الخارج، أو أن يحزموا حقائبهم، ويغادروا إلى بلدان وأسواق ترحّب بهم، في استمرارٍ لهجرة جانبٍ من أفراد العائلات التي توارثت هذه الحرفة أباً عن جد، خلال العقد المنصرم. وفي الحالتين، يصبح رهان الجمعية الحرفية للصياغة، بأن تنعش جهود التصدير للمشغولات الذهبية السورية، خاسراً.
أما الحلول، فهي إصدار تسعيرة رسمية، تعطي هامشاً أعلى لتقييم الدولار بوسطي 200 إلى 300 ليرة، مقارنة بسعر السوق السوداء. وأن تكون مرنة، ويتم تحديثها على مدار اليوم، أسوةً بتحديثات السعر العالمي للأونصة. إلى جانب إصدار هامش محدّد لأجرة الصياغة للغرام الواحد، ينهي حالة الجدل والخلاف بين الصاغة والمشترين، حول قِيم هذه الأجرة، والفوضى في تحديدها. ولأن هذه الحلول، ليست عصيّة على التنفيذ، وهي دون شك، مُدركة من جانب مسؤولي الجمعية الحرفية للصياغة، الذين هم بدورهم، صيّاغ، يُطرح السؤال: لماذا لم يتم الذهاب باتجاه هكذا حلول حتى اليوم؟ يصعب توخي “حُسن النيّة”، في معرض الإجابة، هنا. وكما أن كل القوانين التي تحكم النشاط الاقتصادي في سوريا، تقييدية وغير واقعية، بصورة تتيح للسلطات فُرصاً لا نهائية لفرض الإتاوات وابتزاز الناشطين اقتصادياً، لا يشذ قطاع الذهب عن هذه القاعدة. والحصيلة، المزيد من “تطفيش” القادرين على تحريك مستنقع هذا الاقتصاد، الراكد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت