بالنسبة للكثيرين، لا قيمة مطلقاً لقرار محكمة العدل الدولية وتوجيهها للنظام السوري بوقف التعذيب، أو لمذكرة التوقيف الفرنسية الصادرة بحق بشار الأسد وشقيقه، حتى أننا قد نرى “الأسد” ضمن قائمة زعماء دوليين في قمة المناخ بالإمارات، نهاية الشهر الجاري.
إلا أن سوابق قضائية تاريخية، تشير إلى أثر طفيف لكنه مديد وتراكمي، تتركه ملاحقات مشابهة على أنظمة حكم وديكتاتوريين، بصورة تقلّص من موارد علاقاتهم الخارجية، وترفع كلفة دعمهم على الحلفاء الإقليميين والدوليين، وعلى الحاضنة الشعبية الموالية لهم.
وفي الحالة العربية، يمكن رصد نموذجين لذلك: عمر حسن البشير ومعمر القذافي، اللذين صدرت بحقهما مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، لم تفلح في اعتقالهما، لكنها مثّلت مسماراً آخر في نعشَي حكمهما.
في عام 2009، وحينما صدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، حذّرت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها، من تشدّد إضافي مُرتقب من جانب النظام السوداني، من جراء هذا التطور، خاصة على الصعيد الداخلي، لكنها في الوقت نفسه، أشارت إلى ارتفاع كلفة دعمه من جانب حلفاء ومتعاونين معه كالصين ومصر ودول خليجية، إلى جانب ارتفاع كلفة دعمه داخل السودان، وداخل النخبة الحاكمة والمتنفذين داخلها، تحديداً.
وتوقّع التقرير أنه، ومع الوضع الاقتصادي المتأزم في السودان، فإن على الرئيس السوداني -يومها- القيام بخطوات جدّية لضمان بقائه. وذهبت إلى أنه وفي غياب أي تغيّر نوعي بسياسات الدولة السودانية، في ظل البشير، ستظل الإدانة الناجمة عن مذكرة التوقيف الصادرة عن الجنائية الدولية، سارية، ومؤثرة في جعل النظام السوداني أكثر عزلةً، مما سيجعل الشعب يدفع أثماناً باهظة أكثر.
وبطبيعة الحال، لم تتوقع مجموعة الأزمات الدولية، عام 2009، أن يتم توقيف البشير، أو أن يتم جلبه إلى قفص الجنائية الدولية. لكنها توقّعت أثراً تراكمياً مُرهقاً لنظامه من جراء هذا القرار، وهو ما حدث بالفعل، إذ صمد البشير في كرسي الحكم عشر سنوات بعد صدور مذكرة التوقيف رغم العزلة الدولية التي فُرضت عليه، والتي أتاحت له زيارة عددٍ محدود للغاية من الدول.
تفاقمت أزمات حكم عمر البشير والتدهور الاقتصادي من جراء عزلة نظامه، إلى أن انفجر الشارع السوداني في ثورة ضده، أدت إلى الإطاحة به من جانب عسكريين كانوا طوال عقود، مقرّبين منه، وذلك من جراء ارتفاع كلفة دعمه.
ورغم أن البشير، وحتى مساعدَيه المطلوبين للجنائية الدولية، لم يتم تسليمهم حتى اليوم، إلا أن حكم البشير تهاوى تحت وقع سلسلة من العوامل، كانت مذكرة التوقيف المشار إليها، أحدها، وإن لم تكن الوحيدة، ولا الأكثر تأثيراً، بطبيعة الحال، لكنها كانت إحدى العوامل التي لا يمكن إغفالها.
نموذج نظام القذافي في ليبيا قد يكون مختلفاً نوعاً ما، لكن العامل ذاته يبدو جلياً. فمذكرة توقيف القذافي صدرت بعيد اندلاع الثورة ضده، عام 2011، وشملته مع ابنه سيف الإسلام، ورئيس مخابراته عبد الله السنوسي.
وبعد صدورها بأربعة أشهر، لَقِيَ القذافي مصرعه، لكن ابنه سيف الإسلام نجا، بل وعاد إلى المشهد السياسي، حتى أنه ترشح في الانتخابات الرئاسية التي كانت مزمعة في كانون الأول ديسمبر 2021، قبل أن يتم إلغاؤها، وما تزال السلطات الليبية ترفض تسليمه للجنائية الدولية.
ورغم أن الملاحقات القضائية المحلية ضد سيف الإسلام، أُسقطت، إلا أن استمرار الجنائية الدولية في مطالبها بتسليمه إلى جانب رئيس المخابرات السابق، الذي تجري محاكمته في طرابلس، يشير إلى وجود فيتو غربي على عودته إلى المشهد السياسي، تحديداً من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا.
ورغم محاولات سيف الإسلام لعب دور فاعل في الحياة السياسية الليبية الراهنة، ورغم النفوذ الذي ما يزال يحتفظ به، إلا أنه يواجه الفيتو الغربي، المرتبط بالإدانة الصادرة عن الجنائية الدولية، بصورة تجعل كلفة دعمه للوصول إلى سدة السلطة، باهظة جداً على المتحالفين معه محلياً، ممّا يضعف أوراقه في الصراعات الداخلية على النفوذ والسلطة، بصورة كبيرة جداً، وهو ما يجعل مذكرة التوقيف الصادرة عن الجنائية الدولية، أشبه بـ”إعدام سياسي” لنجل القذافي.
وعطفاً على ما سبق، قد لا يلتقط الكثيرون وجه الشبه بين الملاحقات القضائية التي تصدرها محاكم أوروبية ضد مسؤولين في نظام الأسد، وصولاً إلى رأس الهرم نفسه، وبين الملاحقات الصادرة عن الجنائية الدولية، ورغم وجود فارق سياسي وقانوني أكيد بين هذين النوعين من الملاحقات، إلا أن العامل المشترك يبقى قائماً، وهو الكلفة المتفاقمة من جراء دعم النظام ورأس هرمه على الداعميين الداخليين والخارجيين، في ظل تدهور اقتصادي متفاقم، وهي ذات الكلفة التي أسستها العقوبات الغربية وعزّزها قانون “قيصر”، لتجعل مساعي إعادة تأهيل النظام باهظة، والتطبيع معه منخفض الجدوى.
وذلك لن يمنع دولاً -الإمارات كمثال- من الاستمرار في المحاولة، لكن دون أن تستثمر بصورة مُكلِفة فيه. أي أن ما يحتاجه النظام ليتجاوز عنق زجاجة عزله وانهيار اقتصاده، لن يكون ممكناً، على المدى الطويل.
وهكذا، لن يكون لقرار محكمة العدل الدولية ومذكرة التوقيف الفرنسية، أية نتائج دراماتيكية، نوعية وفارقة، على المدى القريب أو حتى المتوسط. لكنها تمثّل ببساطة، مسماراً آخر في نعش حكم هذا النظام، وطاغيته، على المدى الطويل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت