لا يمكن ان تعتبر زيارة الوفد الوزاري اللبناني، الى دمشق تطبيعاً مع نظام الرئيس بشار الاسد، لأن اللقاءات والزيارات لم تنقطع يوما بين النظامين، والتعاون والتفاهم لم يتراجع الى حدوده الدنيا إلا في الفترة التي حكم فيها فريق 14 آذار إثر إغتيال الرئيس رفيق الحريري. الثورة السورية لم تكن سبباً للقطيعة، بل كانت فرصة لنوع جديد من الاندماج بين الشعبين، اللذين قاتلا معاً..ولو على جبهات متعارضة، حيث مات لبنانيون فداء للنظام السوري، وغصّ آخرون لبقائه.
كل ذلك أصبح الآن من الماضي. نظام الأسد باقٍ، بقوة روسيا وعزيمة إيران. والثورة راحلة، بهزيمة قاسية، نتيجة خيبات متلاحقة وتشوهات متفاقمة. ولم يبقَ من الأزمة السورية، سوى أوهام تغيير سلوك النظام، وأحلام المنفيين السوريين الذين لم يشكلوا حتى اليوم وعلى الرغم من مرور عقد على شتاتهم، حالة قادرة على حماية درعا مثلا، من مصير بائس تواجهه هذه الايام لوحدها، من دون أن تجد نصيراً حتى بين فصائل الشمال السوري المدججة بالسلاح والعقيدة..والتي لا يمكن أن تنسب غالبيتها الى المعارضة أصلا.
كل شيء إنتهى. البحث عن صيغة لتنظيم العلاقات بين البلدين والشعبين والنظامين، بات ضرورة ملحة تستند الى الأقدار، لا الى الاختيار، لا سيما وأنه لم يعد هناك عنوان سوري بديل، لدى شراذم المعارضة، الاسلامية خاصة، يمكن التفاهم معه، مهما كانت سيطرته واسعة على أراضٍ سورية في الشمال..لا تربطها الجغرافيا بلبنان، ولا طبعا السياسة، ولا أي مصلحة أخرى أيضاً.
كان التطبيع مع نظام الاسد مثار جدل واسع في مختلف أنحاء العالم. لكن لبنان، ومعه العراق والجزائر، ظل خارج هذا الجدل. وبقي طوال السنوات الأربع الماضية تحديداً، يغرد في المحافل العربية والدولية منادياً بأعلى صوته بالانفتاح على الاسد، وإعادة نظامه الى المؤسسات والهيئات التي أبعد منها، متشجعاً بمبادرات إماراتية ومصرية، وأردنية أخيراً للتصالح مع دمشق، تدخل الاميركيون لضبطها ووضعها في سياقها السياسي الخاص بالمفاوضات مع طهران وموسكو، وبذريعة قانون قيصر للعقوبات على النظام السوري.
زيارة التطبيع الوزاري اللبناني تأتي في هذا السياق الطبيعي. لم يصدر إعتراضٌ لبنانيٌ واحدٌ على مبدأ الزيارة ولا على مغزاها. المصلحة الوطنية، أو بالاحرى الانتهازية اللبنانية، حالت دون فتح نقاش حول تلك الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل، والتي ستعقبها زيارات متبادلة أهم وأرفع مستوى..لن تثير أي جدل طبعا، لا سيما إذا ظل الحلف اللبناني الحاكم في السلطة، وإذا لم يتعرض النظام السوري لأي إهتزاز داخلي.
الضوء الأخضر الاميركي لمثل هذه الخطوة اللبنانية، لم يكن حاسماً كما يشاع في بيروت اليوم. فقد سبق لواشنطن أن تلقت الكثير من التحذيرات من كبار المسؤولين اللبنانيين من أن عدم تساهلها مع حاجة لبنان الى إستجرار الغاز العربي، عبر سوريا، سيؤدي حتما الى وصول النفط الايراني الى أسواق لبنان. لكن تأخرت في الاستجابة، أو تغاضت عنها، فأبحرت السفن الايرانية قبل ان تتم زيارة الوفد الوزاري اللبناني الى دمشق.. برغم ما يمكن ان يبنى على الربط بين الخطوتين من مصالح بعيدة المدى، تدرج لبنان في محور المقاومة الذي لم يكن خارجه يوماً، منذ أن أرسلت أول دفعة من مقاتلي حزب الله الى سوريا، في ذروة الحملة العسكرية الأولى على مدينة درعا في أواسط العام 2011.
التطبيع طبيعي مع النظام السوري، ولا يتطلب نجاحه سوى تغيير سلوك الاسد تجاه لبنان. وهو ما قد يثبت أنه وهم جديد وقع فيه لبنانيون كثيرون، لم يدركوا أن قصة الودائع السورية التي قدرها الاسد في المصارف اللبنانية بستين مليار دولار،(والتي لا تزيد عن ستة مليارات دولار) هي مطلب اليوم وشرط غداً للتطبيع، وهي تعيد الى الذاكرة قصة شهود الزور الذين أرسلهم الاسد نفسه لحرف التحقيق في إغتيال الحريري عن مساره، ثم طالب بهم.
إذا لم تتغلب المصالح المجردة، والملحّة لدولتين فاشلتين، على العواطف المهترئة التي تقيم علاقات حبٍ وكرهٍ معقدة بين البلدين والشعبين، يفرضها النظام السوري ومعارضوه على حد سواء على اللبنانيين جميعا، فإن صفقة النفط الايراني والغاز العربي للبنان، يمكن أن تضيع في دمشق، قبل أن تصل الى بيروت.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت