حاولت موسكو خلال الشهور الأخيرة التمدد عسكرياً شرقي سوريا ضمن حملة روسية طويلة الأمد لبسط نفوذها على كامل الأراضي السورية، نفوذ يتشكل تدريجياً ضمن مناطق تتقاطع فيها خطوط التماس بين قوى مختلفة مستفيدة من عدة عوامل داخلية وخارجية، بهدف تعزيز وجودها في منطقة استراتيجية مهمة تطمح إلى الاستفادة من ثرواتها الطبيعية من دون مواجهات عسكرية مستغلة بعض التطورات الدولية التي تحاول موسكو تجييرها لحسابها الخاص.
تعود بداية التمدد الروسي شرقي سوريا إلى عام 2017 عندما قدمت الطائرات الروسية الدعم الجوي لقوات النظام السوري لاستعادة ريف دير الزور الشرقي من سيطرة تنظيم الدولة. ومنذ ذلك التاريخ احتفظت روسيا ببعض الوجود العسكري الرسمي في عدد من المواقع الاستراتيجية مثل مطار دير الزور والمربع الأمني وحقل التيم النفطي، ووجود غير رسمي تمثل بانتشار عناصر مرتزقة من قوات فاغنر الروسية التي شاركت إلى جانب قوات النظام في عدد من المعارك التي جرت في المنطقة آنذاك، ودعم شخصيات عسكرية ومدنية سورية للعمل لصالحها.
فيما بعد توسع هذه التمدد شرقاً داخل منطقة النفوذ الأميركية بعد الاتفاق الروسي – التركي على خلفية عملية نبع السلام التي شنتها تركيا بالتعاون مع الجيش الوطني السوري شمال شرقي سوريا نهاية عام 2019 والتي انتهت بتوقيع مذكرة تفاهم تضمنت عدة بنود منها وقف إطلاق النار والحفاظ على ما حققته تركيا من تقدم وسيطرة على بعض المناطق الحدودية مثل تل أبيض ورأس العين وانسحاب قوات سوريا الديمقراطية إلى عمق 32 كم داخل الأراضي السورية، وتسيير دوريات تركية – روسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية نبع السلام بعمق 10 كم، باستثناء مدينة القامشلي.
وحتى نهاية عام 2020 لم تكن هناك استراتيجية واضحة لدى الروس للتمدد في المنطقة بشكل مباشر، الأمر الذي سمح لإيران بتعزيز وجودها بشكل كبير في المنطقة حيث باتت تملك العديد من المقار العسكرية لقواتها والميليشيات التابعة لها على امتداد ريف دير الزور الشرقي وصولاً إلى الحدود العراقية. ويعكس الانتشار الإيراني الكثيف شرق سوريا الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها هذه المنطقة لطهران خاصة أنها تعتبر ممراً حيوياً يربط أنشطتها وشبكاتها التي تمتد من العراق إلى مدينة البوكمال الواقعة على الحدود في سوريا، وغرباً باتجاه لبنان، لنقل الأسلحة والجنود وعناصر الميليشيات عبر الأراضي العراقية، وباتت تنسج خيوط سيطرتها على جميع نواحي الحياة في تلك المنطقة، ومحاولة تشكيل جيب شيعي موالٍ لها على غرار حزب الله جنوبي لبنان، عبر نشر التشيع وتجنيد عناصر من أبناء المنطقة في معسكرها من خلال تقديم الحوافز المادية والمساعدات الإنسانية، بما فيها الخدمات الطبية والتعليمية والثقافية، وتكوين ميليشيات محلية تأتمر بأمرها وتزودها بالمال والعتاد والتدريب، إلى جانب عمليات التهريب التي ترعاها عناصر موالية لها ولحزب الله اللبناني، خاصة تهريب المخدرات والتبغ والآثار السورية والنفط وجميع السلع والبضائع للتحكم بالمنطقة عسكرياً واقتصادياً.
التطور اللافت خلال الشهرين الماضيين هو تزايد الهجمات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت الوجود الإيراني في دير الزور وريفها، والذي ترافق بتمدد روسي واضح لملء الفراغ الذي أحدثته هذه الضربات، حيث تشير المعلومات إلى قيام إيران بعمليات إعادة انتشار وتموضع جديد لقواتها والميليشيات التابعة لها في المنطقة ابتداءً من مركز مدينة دير الزور وصولاً إلى مدينة البوكمال على الحدود العراقية، وذلك للحد من الخسائر الباهظة التي منيت بها من جراء هذه الهجمات. وشملت الإجراءات الإيرانية الجديدة نقل العديد من المقار التابعة لها وتغيير أماكنها، وإخفاء الأعلام من أسطح المواقع والثكنات العسكرية، وتغيير أماكن سكن القيادات العسكرية وعوائلهم والاعتماد على عناصر محلية للتمويه بدلاً من عناصر حراسة المقار الجديدة.
ورغم أن هذه الضربات الجوية لم تنه الوجود العسكري الإيراني في المنطقة، إلا أنها أفقدته تماسكه حيث أدت إلى فرار العديد من الضباط والعناصر المحليين الذين كانوا يعملون ضمن الميليشيات الإيرانية وانضمامهم إلى الفيلق الخامس ولواء القدس المدعومين روسياً واللذين باتا الخيار الأمثل لهؤلاء للحصول على المال والحماية من الملاحقة الإيرانية والأمنية، الأمر الذي أثار قلق إيران بشكل كبير خاصة في ضوء تسريبات أشارت إلى تفاهمات روسية – إسرائيلية بشأن مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، وأخرى أشارت إلى عقد لقاء أمني برعاية روسية في قاعدة حميميم ضم مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى من النظام السوري وإسرائيل لبحث إخراج ميليشيات إيران من سوريا.
يستطيع المتابع للتطورات الميدانية أن يجزم بأن سوريا باتت ساحة صراع خفي بين إيران وروسيا تحت سقف تحالف مزعوم متفقين فيه على مصلحة مشتركة وهي الإبقاء على عميلهما بشار الأسد في سدة الحكم، وتتمثل أشكال هذا الصراع في التنافس على الحصول على مزيد من عقود التنقيب عن النفط، وإعادة تأهيل حقول النفط والغاز المتضررة نتيجة الحرب، وإقامة مصفاة لتكرير النفط الخام. ويمتد هذا التنافس إلى داخل قوات الأسد ذاتها المنقسمة في ولائها أيضاً لهذا الطرف أو ذاك، والميليشيات العاملة في المنطقة حيث يتصارع تياران داخل هذه الميليشيات أحدهما موالٍ للروس والآخر لإيران. لذا تحاول موسكو حالياً الاستفادة من الضعف والانكشاف الذي يعاني منه الوجود الإيراني في المنطقة نتيجة الضربات الجوية الإسرائيلية، والرفض الشعبي المتنامي له، والذي شكل فرصة للقوات الروسية للتوسع على حساب القوات الإيرانية في منطقة استراتيجية باتت تدرك موسكو أهميتها جيداً. وهذا لا يعني أن روسيا تريد إنهاء الوجود الإيراني بشكل كامل في المنطقة، بل تعمل على إبقائه لكن فقط بما يخدم مصالحها الجيوسياسية، فهي بحاجة إلى قوات برية على الأرض لاستخدامها عند الحاجة على أن تبقى هذه القوات ضعيفة مهلهلة تعيش صراعات داخلية تساهم في تغذيتها بشكل أو بآخر.
أخيراً، يمكن القول إن موسكو تدرك جيداً أن التحكم في سوريا يبدأ من دمشق وبالتالي قوتها هناك تنعكس على أي منطقة أخرى في سوريا طالما هي تسيطر على رأس النظام والمفاصل الرئيسية في الدولة، وبالتالي لا تخشى المواجهة مع إيران، لكن مصلحتها تقتضي إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا عامة، وهو ما يفسر عدم اعتراض روسيا على الهجمات الإسرائيلية المتكررة على قواعد إيران العسكرية المنتشرة على الخريطة السورية، وهذا ما ساهم في خلق حالة من عدم الثقة وتزايد الشكوك بين الطرفين قد تتحول إلى علاقات صراع في المستقبل في حال وصلت إيران إلى نقطة الصفر وشعرت بأن روسيا باتت تقف بشكل كامل في المعسكر الذي يطالب بتفكيك وجودها العسكري في سوريا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت