التوتر التركي اليوناني .. حيثياته وأبعاده والصراع على مصادر الطاقة
تصاعد التوتر بين تركيا واليونان، أخيرا، على خلفية الإعلان عن توقيع اليونان ومصر اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما في البحر الأبيض المتوسط في مطلع أغسطس/ آب الجاري، حيث قُوبلت الاتفاقية برفض واعتراض من تركيا، واعتبرتها انتهاكاً لحقوقها في مياه المتوسط، وأن الغرض منها الرد على الاتفاقية البحريّة التي وقعتها مع الحكومة الليبية في27 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ومحاولة لمحو الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، حسبما أظهرته خرائط نشرتها وسائل إعلام يونانية. ولذلك وصفها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأنها “لا قيمة لها، وباطلة”، نظراً إلى عدم وجود حدود بحرية بين اليونان ومصر.
وسارعت أنقرة إلى إرسال سفينة الأبحاث التركية “أوروتش رئيس” إلى قبالة جزيرة قبرص، لاستئناف أنشطتها في المسح الزلزالي، والتنقيب عن مصادر الطاقة، وسط حماية عسكرية مشددة، معتبرة ذلك بمثابة الرد العملي على محاولات عزلها، وأنها اتخذت “كل التدابير اللازمة من أجل حماية حقوقها ومصالحها النابعة من القانون الدولي في مناطق الصلاحية البحرية لتركيا”، بينما ردّت اليونان، معتبرة أن تصرّفات تركيا مثيرة جداً للقلق، وتزيد “العداوة وانعدام الثقة”، وطالبت بعقد اجتماع عاجل للاتحاد الأوروبي، للرد على الخطوة التركية، لكن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي عقدوا اجتماعاً عن بعد، ولم يخرجوا بقرار نهائي، بل دعوا تركيا إلى خفض التوتر والانخراط في الحوار.
حيثيات التوتر
يجادل المسؤولون اليونانيون بأن الاتفاقية مع مصر تعود بالمنفعة على البلدين، حيث اعتبر رئيس الوزراء اليوناني، كرياكوس ميتسوتاكيس، أن تركيا تمارس سياسة ابتزاز بلاده من أجل الدخول في أي عملية تفاوض، وتهدّد حقوقها السيادية في التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية، مبدياً استعداد بلاده للجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، بشأن مسألة ترسيم حدود المناطق البحرية مع تركيا. أما وزير الخارجية اليوناني، نيكوس دندياس، فقد اعتبر أن الاتفاقية “تأتي في إطار القانون الدولي للبحار، وعلاقات الجوار الطيبة، وتسهم في أمن المنطقة واستقرارها”، فيما اعتبر “الاتفاقية التركية مع حكومة الوفاق باطلة، ولا أساس لها من الناحية القانونية”، وهو ما يرفضه المسؤولون الأتراك. غير أن لتصاعد التوتر التركي اليوناني أسبابا وحيثيات متعدّدة، وتضرب عميقاً في علاقات البلدين الجارين، وتتعدّى مشاريع التنقيب عن مصادر الطاقة في مناطق بحرية لم تحسم مسألة السيادة عليها في بحري إيجه والمتوسط، إضافة إلى تشكيل اصطفافات دولية جديدة، تشمل فرنسا واليونان وإيطاليا ومصر وإسرائيل وسواها، وتسعى إلى محاربة تزايد النفوذ التركي في المنطقة، على خلفية حماية نفوذها ومصالحها الاستراتيجية التي تضرّرت من التغيرات الجيوسياسية الجديدة في المتوسط وشمالي أفريقيا.
وينطلق الأتراك من أن تقسيم مناطق السيادة والنفوذ في البحر الأبيض المتوسط يجب أن يُبنى على اعتبارات عديدة:
أولها: لا يمكن حبس تركيا بحرياً في منطقة ضيقة جداً، بناءً على التقسيم الذي تسعى اليونان إلى فرضه على تركيا، لذلك يعتبره المسؤولون الأتراك تقسيماً غير عادل على الإطلاق، لأن تركيا تملك أطول ساحل على البحر الأبيض المتوسط، فيما تعطي الاتفاقية اليونانية المصرية مناطق نفوذ واسعةٍ لليونان، على الرغم من أن مساحتها أصغر من مساحة تركيا عدة مرات. من هنا جاء قول نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، إن بلاده “ستمزق الخرائط التي رُسمت لسجننا داخل البر”.
ثانيها: يتعارض التقسيم الذي تعتمده اليونان مع القانون الدولي للبحار، الذي يطالب بضرورة اللجوء إلى التفاوض عند تحديد مساحة المياه الإقليمية والجرف القاري والحدود البحرية بين الدول المتجاورة، وخصوصا عندما تكون المساحة بينها ضيقة، لذلك يرفض الأتراك رفع اليونان مساحة مياهها الإقليمية إلى 12 ميلاً بحرياً، ويرون فيه إعلان الحرب.
ثالثها: يرفض الأتراك اعتماد اليونانيين في رسم حدود نفوذ بلادهم البحرية على جزيرة كاستيلوريزو (ميس)، كونها تبعد عن السواحل اليونانية 580 كيلومتراً، بينما لا تبعد عن السواحل التركية سوى ثلاثة كيلومترات تقريباً، لذلك يرى وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن “الجزر البعيدة عن البر والقريبة من تركيا ليس لها جرف قاري”. أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فاعتبر أن “الادّعاء أن جزيرة يونانية مساحتها 10 كم مربع لها الحق بجرف قاري مساحته 40 ألف كيلومتر مربع مضحك، ولا أساس له في القانون الدولي، وأدعو اليونان مجدّداً لاحترام حقوق تركيا ومصالحها”.
القانون الدولي للبحار
ويعود مصطلح “الجرف القارّي” إلى ما أورده الرئيس الأميركي، هاري ترومان، في بيان عام 1945، وعنى به الامتداد الطبيعي ليابسة الدولة الساحلية داخل البحار أو المحيطات. وقد عرفت المادة الأولى من اتفاقية جنيف عام 1958، الجرف القارّي بأنه “مناطق من قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ، وتمتد إلى خارج البحر الإقليمي إلى عمق مئتي متر، أو إلى ما يتعدى هذا الحدّ بما يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة”. وتتمسّك اليونان بأحقيتها في الجرف القاري لجزيرة كاستيلوريزو، لكن تركيا ترى أن اليونان تملك منطقة نفوذٍ تتجاوز مساحتها مساحة هذه الجزيرة ذاتها بأربعة آلاف مرة، وهو أمر غير معقول، وغير مقبول أيضاً.
أما القانون الدولي للبحار فقد وضع بناء على اتفاقية جامايكا في عام 1982، لكنه دخل حيّز التنفيذ في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994، ويتضمّن قوانين دولية تتعلق بالمبادئ والقواعد التي تهتم بها الهيئات العامة، وخصوصا الدول في المسائل البحرية، حيث تعرّف المادة 76 من قانون البحار الجرف القاري لأي دولة ساحلية بأنه “قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري، حتى الطرف الخارجي للحافّة القارّية، أو إلى مسافة مائتي ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي، إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة”.
ولم توقع تركيا على قانون البحار، لأنه لم يأتِ على ذكر مبادئ المسافات المتساوية المتعلقة بالخلافات حول الحدود البحرية، كما كان منصوصاً عليها في اتفاقية جنيف 1958، بينما تريد اليونان تطبيق النظام القانوني الخاص بالجزر، وفق المادة 121 من قانون البحار الذي يعتبره الأتراك انتهاكاً لمبدأ العدل، فيما تتجاهل اليونان ما تنصّ عليه المادتان 74 و83، اللتان تخصّان تحديد الحدود البحرية للجروف القارية بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتجاورة.
الصراع على مصادر الطاقة
ليس الصراع على الغاز والموارد الطبيعية بين تركيا واليونان في بحري إيجه والمتوسط جديدا، لكنه تصاعد مع تنامي اكتشافات النفط والغاز، وتزايد عمليات البحث والتنقيب، حيث قدّر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأميركية صدر في عام 2010 وجود 122 تريليون قدم مكعبة، أي 3455 مليار متر مكعب، من الغاز الطبيعي، إضافة إلى وجود 1.7 مليار برميل من النفط في منطقة شرقي المتوسط. وجرت عمليات تنقيب محمومة في المنطقة، أفضت إلى اكتشاف حقول غاز ونفط عديدة، أبرزها حقل “ظهر” قبالة السواحل المصرية الذي يحتوي على احتياطات تقدر بـ 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وحقل “أفروديت” قبالة شواطئ قبرص، ويحتوي على احتياطي يقدر بنحو ثمانية تريليونات قدم مكعبة من الغار، وحقل “لوثيان” قبالة مدينة حيفا الذي تقدّر احتياطاته أيضاً بنحو 18 تريليون قدم مكعبة، ثم حقل “تامار” الواقع بين الحدود البحرية لكل من لبنان وإسرائيل وسورية وقبرص.
وأصبحت منطقة شرقي البحر المتوسط محط أنظار دول عديدة منذ 2009، حيث سارعت الدول المطلة على شرقي المتوسط إلى عقد اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية غير المرسومة بينها منذ سنوات وعقود عديدة، بغية الفصل بين المناطق الاقتصادية الخالصة لكل دولة، والاستفادة من مصادر الطاقة في تلك المناطق، ودخلت في تنافس وصراع بينها على مناطق النفوذ البحرية، حيث اتفقت كل من اليونان وقبرص وإيطاليا ومصر وإسرائيل، في العام 2017، على إنشاء خط من أجل نقل الغاز الطبيعي تحت المياه من الحقول المنتجة بمنطقة شرقي المتوسط إلى الدول الأوروبية. وطاول ذلك دولاً من خارج المنطقة، بما فيها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، بعد الاكتشافات التي أظهرت احتواءها على مناطق غنية بالغاز الطبيعي، ووُضعت خطط لإنشاء خط للغاز سُمي خط غاز شرق المتوسط للتصديره إلى بلدان أوروبا. وإذ يعود أساس الصراع بين الدول المطلة على منطقة شرقي المتوسط إلى الخلافات السياسية والتاريخية بينها، إلا أنه انتقل إلى مرحلة من التأزّم بعد تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة في يناير/ كانون الثاني من العام 2019، والذي استنثى كلًا من تركيا وليبيا ولبنان وسورية. وجاءت الاتفاقية البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية ردّا على المنتدى، كونها منحت تركيا مساحة مائية كبيرة جدا تصل إلى 189 ألف كيلومتر مربع، فيما زادت مساحة نفوذ ليبيا إلى أكثر من 16 ألف كيلومتر مربع، حيث أعادت الاتفاقية تحديد مساحة المنطقة الاقتصادية للبلدين والجرف القارّي لكل منهما.
آفاق التصعيد
ويحاول الاتحاد الأوروبي وقف التصعيد المتنامي ما بين تركيا واليونان، بوصفه ليس حلاً لمشكلات المنطقة، وقد يفضي إلى انفجار الصراع وانفتاحه على كل الاحتمالات. ولذلك يعمل بعض قادته على التوصل إلى حلٍّ وفقاً للقوانين الدولية، وخصوصا اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تنصّ على ضرورة إجراء مفاوضات إلزامية، في حال تداخل المناطق الاقتصادية بين الدول.
ويرى الساسة الأتراك أن بلادهم تفضل الحوار والتفاوض لحل الخلافات مع اليونان وسواها، وسبق أن أمر الرئيس التركي أردوغان أمر بوقف عملية التنقيب في المتوسط، لتخفيف التوتر مع اليونان، وإفساح المجال للمفاوضات بناء على وساطة بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والاتحاد الأوروبي، لكن اليونان استغلت الفرصة بتوقيعها الاتفاقية مع مصر، ما يعني رفضها التفاوض، وسعيها إلى توسيع الصراع، ومحاولة تأجيجه، على خلفية النزاع بين مصر وتركيا في ليبيا، وأن الأمر لم يعد يقتصر على مصادر الطاقة والمناطق الاقتصادية في البحر المتوسط، بل يتعدّاه إلى محاولة محاصرة تركيا، خصوصا بعد دخول مصر على خط الصراع، على خلفية سياسة المحاور والوضع في ليبيا، على الرغم من أن الساسة الأتراك صرّحوا، في أكثر من مناسبة، إنهم لا يريدون فتح مواجهة عسكرية مع مصر، إلا أن الاتفاقية بين اليونان ومصر التي تعد فيها مصر خاسرة، قد تزيد من حدةّ المواجهة بالوكالة، وربما الدخول في صدام مباشر.
وعلى الرغم من ذلك كله تعمل أنقرة على تغليب العقل ولغة الحوار من أجل تجنيب المنطقة من ويلات التصعيد والصدام العسكري. ولذلك دعا الرئيس أردوغان إلى اجتماع للدول المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، بغية التوصل إلى صيغة متفق عليها، من أجل تقسيم عادل يحفظ حقوقها جميعاً.
وتحاول تركيا منذ عام 2018 اللجوء إلى خطوات قانونية دولية لإبطال اتفاقية دول منتدى غاز المتوسط، بدعوى انتهاكها جرفها القارّي ومياهها الإقليمية، لكن الاصطفافات والتكتلات الإقليمية والدولية في حوض شرقي المتوسط، وتضارب الأجندات والحسابات والمصالح يحول دون التوصل إلى تفاهماتٍ جامعة، بل إلى محاولاتٍ لإعادة رسم الخرائط وتقاسم النفوذ ما بين الدول، على الرغم من تصريحاتٍ معلنة لمعظم مسؤوليها في الرغبة في الحوار والتفاوض، إلا أن احتمالات المواجهات العسكرية المباشرة تزداد في منطقة شرقي المتوسط وإيجه، خصوصا وأن أنقرة أعلنت، في أكثر من مناسبة، استعدادها للرد على أثينا التي أبدت استعدادها لأي احتمال بما فيه المواجهة العسكرية، لكن المرجح أن التحالفات والتكتلات السياسية والأمينة التي تضم اليونان وتركيا، مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والمجلس الأوروبي وعلاقة تركيا مع منظومات الاتحاد الأوروبي، لن تدع التصعيد بين البلدين أن يبلغ مداه، لأن ذلك يضرّ مصالح واستراتيجيات دولها، لذلك ستحاول البحث عن سبل لفتح باب الحوار والتفاوض.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت