لم تأتِ موافقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الفراغ؛ وإنما كانت حصيلة سلسلة طويلة من الاجتماعات والاتصالات والتوافقات الشفوية والمكتوبة، سواء بين كل من تركيا والسويد وفنلندا والحلف؛ أو بين كل من تركيا والولايات المتحدة، أو بين الأخيرة والسويد. أما بالنسبة إلى التوافقات التركية السويدية الأحدث فقد تمثّلت في الوثيقة التي وقع عليها كل من الرئيس التركي ورئيس وزراء السويد، أولف كريسترسون، في اجتماعهما في فيلنيوس عشية قمّة “الناتو” (12/11-7 – 2023)؛ وهو الاجتماع الذي كان بإدارة الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ. ومن بين ما جاء في النقاط الست التي شكّلت قَوام الوثيقة المعنية: الإشادة بما أقدمت عليه السويد في مجال تعديل قوانين وسنّها لتعزيز مناهضة الإرهاب، وذكر حزب العمال الكردستاني بالاسم، إلى جانب رفع الحظر المفروض على تصدير الأسلحة السويدية إلى تركيا. هذا إلى جانب الارتقاء بالتعاون الأمني إلى المستوى الوزاري، من أجل وضع حد لنشاط المنظمات الإرهابية، والتزام السويد بعدم تقديم الدعم إلى كل من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدة حماية الشعب، وتأكيد استمرارية هذا التعاون، حتى بعد انضمام السويد إلى “الناتو”.
كما نص الاتفاق المعني على زيادة حجم التجارة والاستثمارات بين البلدين؛ والحصول على وعد خاص من السويد بدعم التوجّهات التركية في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي، سواء من جهة تحسين شروط اتفاقية الاتحاد الجمركي، أو السعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلاً. وفضلاً عن ذلك، تسهيل موضوع إعطاء التأشيرات إلى المواطنين الأتراك الراغبين في السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي. وعلى الأرجح ستكون هناك وثيقة توافقات أخرى بين كل من تركيا والولايات المتحدة الأميركية، تتضمّن صفقة طائرات ف 16 التي تنوي تركيا شراءها من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قطع الغيار. وربما هناك توافقات بخصوص التعامل المستقبلي مع منطقة شرق الفرات، وتحجيم تأثير حزب العمال الكردستاني على الأوضاع هناك، بناء على تصنيف الجانبين التركي والأميركي الحزب المذكور ضمن خانة الإرهاب.
والجدير بالذكر هنا أن هذا التوجّه التركي الجديد نسبياً الذي عبّر عنه الرئيس التركي قبيل قمة “الناتو” وفي أثنائها، لم يكن مفاجئاً بالنسبة للمتابع لواقع المتغيرات الإقليمية والدولية، والمطّلع على ماهية تطوّر الأوضاع ضمن الداخل التركي نفسه، فتركيا تعاني اليوم من صعوبات اقتصادية كبرى نتيجة جملة عوامل، في مقدمتها الفتور بينها وبين الدول الغربية، الأمر الذي قلّص حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين الطرفين؛ وهو ما أدّى، من ناحيته، إلى جانب عوامل أخرى تتصل بالسياسة الاقتصادية التي كانت معتمدة قبل انتخابات مايو/ أيار الماضي، إلى ارتفاع نسبة التضخّم بوتائر سريعة، وانهيار قيمة الليرة التركية مقابل العملات الدولية الرئيسية، خصوصاً مقابل الدولار واليورو. وروسيا، بإمكاناتها الضعيفة اقتصادياً، لم ولن تتمكن من أن تقدّم الخيار البديل لتركيا.
من جهة ثانية، يظلّ التوجّه نحو الغرب خياراً رئيساً في عقيدة الجيش التركي، وحتى بالنسبة إلى النخب المجتمعية التركية المختلفة، الاقتصادية أو الفكرية. فالجمهورية التركية ما زالت متمسكة بنهج مؤسسها؛ وما زالت الانتخابات التركية تجري وفق قواعد النظام العلماني الذي وضع أسسه مصطفى كمال، وهو النظام الذي يتعهّد الجيش إلى جانب الدولة العميقة بالمحافظة عليه؛ وهذا ما يستنتج من حرص الرئيس التركي بغض النظر عن طبيعة انتمائه الحزبي، في المناسبات المختلفة، سيما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، على زيارة ضريح مؤسّس الدولة التركية المعاصرة، لتأكيد الالتزام بالقواعد التي بنيت عليها الجمهورية التركية بعد الإعلان عن إنهاء الخلافة الإسلامية عام 1924.
ورغم أن بوتين كان يراهن كثيراً على موقف تركيا بقيادة أردوغان، ويبدي، في المناسبات المختلفة، إعجابه بشجاعته في اتخاذ القرارات، كما كان يمدح براغماتيته؛ إلا أنه على الأكثر لم يكن يتوقع أن يأتي الانعطاف التركي أخيرا بهذا الشكل وبهذه السرعة. ولكن يبدو أن تركيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة قد أدركا أن المصالح التي تجمع بينهما، خصوصا على صعيد العوامل الاقتصادية والجيوسياسية، أكبر بكثير من تلك المواقف السياسية العابرة، أو التي كانت بمثابة ردود أفعال محكومة، في معظم الأحوال، بعوامل وحسابات داخلية، سيما في مرحلة الانتخابات، ورغبة كل طرف في تعبئة الناس، واستقطابهم.
من جهة أخرى، كانت تركيا، وما زالت، تدرك أن بوتين القوي، الذي لا يخفي حنينه إلى ماضي بلاده الإمبراطوري، سيكون خطراً جدّياً عليها في حال انتصاره في أوكرانيا من جهة الشمال، في حين أن قواته وقواعده موجودة أصلاً من جهة الجنوب في سورية وفي مناطق متاخمة لحدودها الجنوبية. وفي الوقت ذاته، سيسعى بوتين، وخليفته على الأكثر، من أجل منافسة تركيا في دول آسيا الوسطى. أما في حالة خسارته (بوتين) في حربه على أوكرانيا، فهذا فحواه أن أوراق أردوغان مع الغرب ستفقد الكثير من قوتها وتأثيرها، ما سيلزمه بالتنازلات، ويبعده عن دائرة القدرة على فرض الشروط، أو على الأقل المطالبة بالحدّ الأدنى الممكن من المزايا التي تمكّنه من تمرير (وتسويغ) توافقاته الهشّة مع الغرب في الداخل التركي.
والسؤال الذي يفرض ذاته في هذا السياق، بعد التوافق التركي السويدي المشار إليه، وهو التوافق الذي يأتي ضمن توافق أشمل مع الأميركان يتعلق بانعكاسات هذا الاتفاق على الواقع السوري الراهن والمستقبلي، فتركيا التي تسيطر على مناطق مهمة في الشمال الغربي من سورية، وتتطلع نحو إعادة ترتيب الأمر في منطقة شرق الفرات، عبر تحجيم، إن لم يكن إلغاء نفوذ حزب العمال الكردستاني على الأوضاع هناك، وإعطاء مزيد من الدور للقوى السياسية والمجتمعية الأخرى لتحقيق التوازن وفق حساباتها، لن تكون تركيا نفسها التي كانت قبل توافقها مع الغرب، ومع الأميركان تحديداً. ولن يكون دورها الجديد استمراراً لدورها ضمن مسار أستانة الذي استخدمه الروس لتجاوز إعلان جنيف (2012)، وتمكين سلطة بشار الأسد من السيطرة على مناطق كثيرة تحت شعارات مختلفة. كما أن الالتزام السويدي الصريح بعدم تقديم الدعم لكل من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدة حماية الشعب لا يمكن أن يكون بعيداً عن علم الأميركان، بل هو على الأرجح بموافقتهم.
هل سنشهد في المرحلة المقبلة توجهاً أميركياً جاداً بخصوص الضغط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي، ليتحوّلا إلى قوة سورية تعتبر نفسها بالفعل، لا بالشعارات، جزءاً من المعارضة السورية المناهضة لسلطة آل الأسد، وجزءاً من الحل الشامل للموضوع السوري مستقبلاً على قاعدة وحدة الشعب والبلد، وبعيداً عن المشاريع العابرة للحدود بشعاراتها المختلفة من مذهبية وقومية وغيرها. وعلى أساس حدوث عملية انتقال سياسي جدّية تأخذ بعين الاعتبار تضحيات السوريين وتطلعاتهم، والجرائم التي ارتكبتها سلطة بشّار الأسد ضد السوريين عبر القتل، والتدمير، والتهجير، والتغييب؟
وهل ستكون تركيا مستعدّة في مرحلة ما بعد الانتخابات للعودة إلى العملية السياسية التي كانت وأخفقت، وذلك للوصول إلى حل عادل واقعي مقبول للموضوع الكردي في تركيا من مختلف الأطراف على أسس وحدة الشعب والبلد؟ وهذا الأمر، في حال تحقّقه، سيكون لصالح تركيا أولاً، ولصالح شعوب المنطقة ودولها، لأنه يحقّق الاستقرار لتركيا والمنطقة، ويُخرج الورقة الكردية في تركيا من أيادي الروس والإيرانيين وسلطة آل الأسد. وستكون هذه الخطوة مفصليةً على صعيد تعزيز الحريات الديمقراطية وحرية التعبير، خصوصا بالنسبة إلى الصحافيين والمفكّرين وسائر العاملين في الحقل الثقافي، وسيقطع ذلك كله الطريق على الأصوات الأوروبية المتشدّدة، العنصرية، المعترضة على التقارب الأوروبي مع تركيا، وعلى موضوع الموافقة على انضمام تركيا مستقبلاً إلى الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل، معاملة تركيا معاملة الشريك المتميز المفضل.
أما سورياً، فإن خطوة فك الارتباط بين “قسد” والاتحاد الديمقراطي من جهة، و”العمال الكردستاني” من الجهة المقابلة، سيجعل ورقة الشمال السوري بغربه وشرقه ورقة قوية في المفاوضات المستقبلية بخصوص الملف السوري. كما ستكون هذه الورقة مؤثّرة في الموضوع العراقي ايضاً. إذ لم يعد سرّاً أن إيران تحاول المستحيل عبر المرتبطين معها من أجل قمع تطلعات العراقيين، كل العراقيين، والشيعة العراقيين في مقدمتهم. ولعل من نافل القول الإشارة هنا إلى أن هذه الخطوات ستكون أقوى وأكثر تأثيراً في ظل حضور عربي قوي فاعل في الملفّين العراقي والسوري، حضور يمتلك كل المشروعية، والكثير الكثير من الركائز القوية المؤثرة في الداخل السوري وكذلك العراقي، شرط توفّر الرغبة والإرادة والاستراتيجية.
وأخيراً، وليس آخراً، يُشار هنا إلى أن موافقات السلطات السويدية المستمرّة الخاصة على إحراق نسخ من المصحف الشريف تحت شعار “حرية التعبير”، ستكون بمثابة عراقيل ثابتة على طريق انضمام السويد إلى “الناتو”. كما أن الحملات العنصرية التي يتعرّض لها اللاجئون السوريون في تركيا، إلى جانب أساليب العنف التي تمارسها الأجهزة المكلفة بترحيلهم، ستلقي بظلالها القاتمة على مستقبل العلاقات الإيجابية التي ينبغي أن تكون بين الشعبين الجارين اللذين تربطهما حقائق التاريخ والجغرافيا والتداخل السكاني والمصالح المشتركة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت