في آخر بياناتها، التي أعقبت الصدام الأخير في محافظة إدلب، عرّفت “هيئة تحرير الشام” نفسها بأنها “مشروعٌ سني يعنى بأمور المسلمين السياسية والأمنية والعسكرية والخدمية”، في تعريفٍ لخّص الحال الذي وصلت إليه في البقعة الجغرافية التي تنشط بها في الشمال الغربي لسورية، ولتؤكد بذلك هيمنتها الأمنية والعسكرية من جهة، والخدمية عبر ذراعها الإداري “حكومة الإنقاذ السورية” من جهة أخرى.
“المشروع السني” الذي تحدثت عنه “الهيئة”، كانت قد سبقته عدة مشاريع، أعلن عنها “أبو محمد الجولاني” على عدة مراحل وتغييراتٍ حسب الظرف الذي مرّت به إدلب، بين العام والآخر، وأحياناً بين الشهر والآخر؛ لكن حال اليوم يختلف عن السابق، ولاسيما أن التطورات الميدانية على الأرض من جهة والواقع السياسي العام لسورية ألقى بتبعاته على إدلب، وتحسستهُ الأطراف العسكرية النشطة بها، وبشكل أساسي “تحرير الشام”.
ومن الواقع الذي فُرض في إدلب، اتجهت “تحرير الشام” للتكيف معه، وهو ما تمت ترجمته مؤخراً بالتطورات الأخيرة، التي تمثلت بالصدام العسكري مع التشكيلات الجهادية المنضوية في غرفة عمليات “فاثبتوا”، وبصداراتها “حراس الدين”، والاعتقالات التي نفذتها بحق قيادات “جهادية” بارزة، الأمر الذي أعطى صورةً عن خطوات تسير بها “الهيئة”، ضمن محاولات تصدير نفسها كجسم عسكري فاعل “معتدل”، بعيداً عن صورة “الإرهاب”، التي لازمتها على مدار السنوات الماضية.
لكن ومع الخطوات التي تسير بها “تحرير الشام” لإثبات “الاعتدال” ونزع صفة “الإرهاب” عنها، يبقى مستقبلها رهن تساؤلات، و نتائج محاولاتها غير واضحة، خاصة أن ما تعمل عليه من خطواتٍ متسارعة، سواء من تثبيت جذورها الأمنية والعسكرية والإدارية أو محاربة الأطراف الأكثر تشدداً منها، لا يمكن أن تتم أو تتحقق أهدافها أو يمكن فصلها عن رد الفعل الذي ستفرضه في ميزان الدول الفاعلة، وخاصةً الجانب التركي، والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت قد أبدت مرونةً مؤخراً بموقفها حيال الوضع العام لـ”تحرير الشام”، إضافةً إلى الجانب الروسي، الذي ما يزال حتى اليوم ملتزماً بموقف واحد إزاء “الهيئة”، باعتبارها منظمة “إرهابية يجب القضاء عليها”، وإبعادها عن المشهد السوري.
تحركات للداخل والخارج
يتفق معظم المحللين أن ما تعمل عليه “تحرير الشام” حالياً في إدلب، وبشكل خاص قائدها “أبو محمد الجولاني” يصب في محاولاته لإثبات الاعتدال، بعد سنوات من الصورة الجهادية البحتة، لذلك كان له مسار واحد لابد من المضي فيه، وهو قتال بقايا الموالين لـ”القاعدة” في محافظة إدلب، وبالتوازي معها استأثر بالملفات الاقتصادية والخدمية بشكل كامل، عبر ذراع “حكومة الإنقاذ”.
ما سبق لم ينفصل عن تحركاتٍ اعتبرها محللون بمثابة “استثمارٍ” داخلي وخارجي بدأ الجولاني بالعمل عليه بالتزامن، وظهر بشكل واضح، مطلع عام 2020، منطلقاً بذلك من عدة مسارات، فبينما استثمر وجود تنظيمات تتبع تنظيم “القاعدة” على الأرض لإثباء ولضمان وجوده وبقاءه، توجهت أنظاره إلى الخارج وللدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري.
الباحث الأمريكي، سام هيلر يرى أن “أبو محمد الجولاني” ومنذ ظهوره في الساحة السورية أثبت جاهزيته للتأقلم مع الظروف المتغيرة الانسيابية، وقدرته على المناورة والالتفاف.
ويضيف هيلر في حديثٍ لـ”السورية.نت”: “حتى أن مبايعة الجولاني لأمير تنظيم القاعدة في عام 2013 كانت تحركاً طارئاً للنجاة بجبهته والساحة عموماً من محاولة تنظيم الدولة لابتلاعهما”، مشيراً “عندما أصبح ارتباط جبهة الجولاني بالقاعدة عبءً عليه، وعائقاً أمام مساعيه لاستيعاب الفصائل الأخرى، تخلى عنه وبدأ بطور جديد من تطور تنظيمه (…) مرحلة ما بعد القاعدة”.
ويتوقع الباحث أن تحركات “الجولاني” الأخيرة و”محاولته للتسويق لنفسه كشخصية سياسية عامة مثلها مثل التحركات التي سبقتها، إذ تنبع من قراءته للمشهد السوري، ومما يراه ضرورياً، لكي يتجاوز هذه المرحلة الحرجة ويصل للمرحلة القادمة”.
وفي سياق ما سبق، وضمن مساعي “تحرير الشام” لإحباط غرفة عمليات “فاثبتوا” يعتبر الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ساشا العلو أن “الهيئة” تنظر للتجمع (غرفة فاثبتوا) كمجال “استثمار لصالحها ومدخل للتنسيق الدولي والإقليمي، ومجالاً للتمايز وإثبات تحولاتها”.
ويقول العلو في حديث لـ”السورية.نت” أن العلاقة بين الطرفين “تعد قلقة ومتوترة ومرشحة للانفجار بشكل أكبر مستقبلاً، خاصة بعد الاستنفار الأمني ضمن غرفة عمليات فاثبتوا، إثر اعتقال قياداتها”.
وحسب الباحث، فإن “تحرير الشام” باتت تفرض شروطاً ومحددات “النادي الجهادي” في الشمال الغربي من سورية، والتي لا تنطبق فقط على من هم ضمن صفوفها، وإنما تتعداها لمن يفكر بالخروج عنها.
لكن ومع ما سبق يرى ذات المتحدث أنه و”بالرغم مما يوحي به استثمار تحرير الشام في الملفات (الجهادي، الإداري، الأمني، الاقتصادي) من قوة وقدرة على إدارة وضبط عدة ملفات ومرونة في التعاطي مع الظرف السياسي القائم وتوظيفه لصالحها، إلا أنه وبالوقت ذاته يعكس في عمقه حالة من التخبط والضعف، خاصة وأنه يأتي في سياق تحولات تنظيمية تكتيكية لا تمت بأي صلة للأيديولوجيا ومراجعاتها، وضمن سياق رهانات مستقبلية غير مضمونة النتائج”.
ويشير الباحث إلى أنه “وفي الوقت الذي تحقق فيه الهيئة مكاسب شكليّة، إلا أنها وخلال تلك التحولات تفقد بعض أوراقها تدريجياً”.
من يستثمر بالجولاني؟
بعيداً عن الأرض والتحركات المتسارعة التي فرضتها “تحرير الشام” في إدلب، في الأيام الماضية، يبدو أن “تحرير الشام” عبر قائدها “أبو محمد الجولاني” تتطلع إلى مشهد جديد لها في الأيام المقبلة، يرتبط بشكل أساسي بالدول الفاعلة في سورية، وخاصةً أمريكا وتركيا.
النقطة اللافتة التي كانت محط جدل واسع أثناء الصدام العسكري الأخير بين “تحرير الشام” وفصائل “فاثبتوا”، هي الاستهدافات التي طالت قياديين بارزين يتبعون لتنظيم “القاعدة”، الأمر الذي فسره محللون، على أنه تنسيقٌ قد يكون حصل في الخفاء، بين “الجولاني” وأطراف دولية، كانت تقف وراء عمليات الاستهداف.
ما سبق كان قد سبقته تصريحات قبل أشهر للمبعوث الأمريكي إلى سورية، جيمس جيفري قال فيها إن “تحرير الشام تركز على قتال قوات النظام، ولم يشهد لها تهديداً على المستوى الدولي”.
وأضاف جيفري في مؤتمر صحفي، في مايو/أيار الماضي، أن “تحرير الشام تعرّف عن نفسها أنها تمثل معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، لكن أمريكا لم تقبل بهذا التوصيف بعد”.
وبوجهة نظر الباحث الأمريكي، سام هيلر فإن “الولايات المتحدة تنظر لهيئة تحرير الشام من زاويتين”.
الزاوية الأولى، بحسب هيلر “هي النظرة للهيئة على أنها تنظيم جهادي ومسألة مكافحة الإرهاب، وتهديد للأمن العالمي إما بشكل مباشر كالهيئة نفسها، أو بشكل غير مباشر ككيان متشابك مع شبكات جهادية عالمية، يوفر الغطاء والإيواء لشخصيات مصنفة خطيرة”.
ويضيف الباحث: “على ما يبدو، تناقص القلق الأمريكي بشأن التهديد الإرهابي الذي تمثله الهيئة نفسها خلال الفترة الأخيرة”.
أما الزاوية الثانية، فهي “النظرة للهيئة من منظور الحرص على مناطق المعارضة في إدلب والدعم للحليف تركيا، وبناء على ذلك، تبذل الولايات المتحدة جهداً لمساندة تركيا وموقفها مقابل الطرف الروسي، وبما في ذلك الدعم لتعامل تركيا مع ملف هيئة تحرير الشام والتنظيمات الجهادية في إدلب”.
ومع ذلك، يرى الباحث الأمريكي أن “الدعم الأمريكي لجهود تركيا الهادفة لإنقاذ إدلب وإعادة هندسة الهيئة له حدوده”، مستبعداً “تدخلاً أمريكياً في ملف إدلب على غرار دعمها السابق لفصائل المعارضة، مثلاً، ومن المرجح أن يقتصر الدعم الأمريكي لتركيا على السياسي والإغاثي والمعنوي فقط”.
هل تُستنسخ تجربة “طالبان” في إدلب؟
لا تزال “تحرير الشام” حتى اليوم تحتفظ بقوتها المركزية المتمثلة بـ “جيش النصرة”، والذي كان رأس حربة في معاركها الأخيرة ضد فصائل كـ “حركة أحرار الشام”، ووفق مراقبين، فإن “تحرير الشام” لم تنجح في تغيير المعادلة في الشمال السوري، كما كانت غايتها حين تشكيلها، بل زادت الواقع تعقيداً في المنطقة.
وربما تعمل “الهيئة” على أن تفضي تحركاتها وتغيير سلوكها، إلى ما وصلت إليه تجربة طالبان الأفغانية، التي توجّهت إلى العمل السياسي بعد صراعٍ مرير، وافتتحت مكتباً في قطر عام 2013، وأبدت كابول والولايات المتحدة الاستعداد لمفاوضة الحركة.
ولا يرى الباحث سام هيلر أن تجربة طالبان تنطبق على “الهيئة”، موضحاً “بما أن الولايات المتحدة ليست طرفاً أساسياً في معركة إدلب، فليس بيدها نفس قرار السلم والحرب ألتي تمتلكها في أفغانستان”.
ويتابع الباحث: “بل أن الطرف في إدلب الذي يساوي دوره الدور الأمريكي في أفغانستان هو روسيا، وليس أمريكا، فيقع قرار استنساخ تجربة التفاوض والاتفاق مع طالبان إدلب في حقيقة الأمر في يد الروس”.
أما الباحث، ساشا العلو فيرى أن “تحرير الشام تراهن في المدى القريب على كسب الوقت والتراجع درجة أو أكثر على سلم أولويات المجتمع الدولي، لصالح صعود الجماعات الجهادية في الطرف الآخر، وفرض نفسها كجزء من التفاهمات في المنطقة، وتجنب معركة استئصال شاملة عليها”.
وحول الهدف الذي تراهن الهيئة لتحقيقه على المدى البعيد، يرى العلو أن هذا سؤالٌ صعب “حتى داخل صفوف الهيئة ومجلس شوراها”، لافتاً إلى أنه “يمكن استنتاج إجابة أوليّة من خلال سلوك الهيئة وزعيمها، والذي بدا أقرب إلى محاولة استنساخ نموذج حركة طالبان لناحية صراعها كقوة جهادية محليّة مع القاعدة كتنظيم عالمي، وانفتاحها على المفاوضات مع الولايات المتحدة، وفرض نفسها كطرف رئيس ضمن التسوية السياسية في أفغانستان”.
ويستبعد ذات المتحدث، مقاربة تجربة طالبان بما تفكر به “تحرير الشام”، معتبراً أن “خصوصية الواقع السوري وموقع سورية الأمني في المنطقة والإقليم، وتعدد واختلاف اللاعبين الإقليميين والدوليين وكذلك البيئات، يفرض تناقضات أكبر بكثير من المشتركات بين التجربتين”.
ويرى أن “انفتاح قوى إقليمية ودولية على الهيئة وفقاً لتقاطع مصالح مرحلي، لا يعني أبداً إمكانية تعويمها مستقبلاً، بقدر ما يشير إلى توظيف واستثمار لقيادة براغماتية تبدي مرونة عالية، مقابل استغلال الأخيرة للظرف القائم والهواجس الأمنية للاعبين الإقليميين والدوليين، وذلك ضمن معادلة تبادل مصالح قد تضمن للهيئة مكاسب في المدى القريب، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك على المدى البعيد”.
تنسيق مصلحي
في إطار ما سبق وبالوقوف على الواقع الذي تشهده إدلب على الأرض، كان واضحاً في الأيام الماضية دخول آلاف الجنود الأتراك إلى عدة مواقع ونقاط استراتيجية، وهي تحركات جاءت برضا “تحرير الشام”، ودون أي عرقلة منها، بل على العكس سجلت عدة حوادث حاولت من خلالها “تحرير الشام” إبراز نفسها كطرف عسكري حامٍ للجنود الأترك في المحافظة.
وعند الحديث عن محافظة إدلب والمستقبل الذي ستكون عليه “تحرير الشام” في الأيام المقبلة، لا يمكن تجاهل دور تركيا ونظرتها للمنطقة الواقعة على حدودها ككل، ولاسيما أن الحديث يدور في الوقت الحالي عن خطوات لإعادة الهيكلية العسكرية لفصائل إدلب، بما فيها “تحرير الشام”.
وضمن محاولاتها لإثبات الاعتدال، كانت “تحرير الشام” قد أرسلت عدة رسائل على العلن للجانب التركي، تمحور مضمونها بالشكر لما تعمل عليه أنقرة في إدلب من جهة، وأبدت استعدادها فيها للتعاون بأية مجالات خدمية أو أمنية، من جهة أخرى.
وبحسب الباحث، سام هيلر فإن “العلاقة بين هيئة تحرير الشام والجانب التركي غامضة بعض الشيء، بما فيها من حرج لكل من الطرفين، ورغم ذلك، فإن التنسيق بينهما واضح للعيان، ولو كان ذلك التنسيق أساسه مصلحي”، مضيفاً أن “الهيئة أبدت استعدادها لتطبيق ما يتفق عليه الطرف التركي مع المفاوض الروسي وضمان تنفيذ التزاماته، وبذلك أثبتت مصداقية الطرف التركي ومصداقية الهيئة نفسها”.
وحول التحرك الأخير لـ”تحرير الشام” ضد غرفة عمليات “فاثبتو” يشير هيلر إلى أنها “خطوة تزيد تمسك الهيئة بالوضع في إدلب، وتؤكد جديتها في ضمان صيغة تركية-روسية، من شأنها أن تحييد تهديد الاجتياح العسكري”.
ومما سبق شكك الباحث بأن تستثمر أطراف دولية “اعتدال” الجولاني، وخاصةً الدول الغربية.
ويقول: “لا توجد لدى تلك الدول ثقة بالجولاني بعد ترهيب تنظيمه لشركاء الدول السوريين من ناشطين وغيرهم، كما أن تلك الدول ليست مقتنعة بجدوى تعويم الجولاني (…) من سيقرر مصير الجولاني ومعه ما يتبقى من مناطق المعارضة في إدلب ليس تلك الدول الغربية، بل الروس، الذين لم يظهروا إلى الآن استعدادهم للتساهل مع الإرهابيين”.