انتهى العام الأسوأ في حياة السوريين، معيشياً. يمكن أن ترصد حالة تقترب من الإجماع، على هذا التوصيف، في معظم ما كتبه المنظّرون الاقتصاديون في وسائل الإعلام التابعة للنظام، أو الموالية لها، والتي انشغلت على مدار الأسبوع الأخير من العام الفائت، والأول من العام الجديد، في تفصيل مقدار عمق الهوة التي انحدرت إليها معيشة السوريين خلال 2023، عبر نسب مئوية تنتمي في معظمها إلى فئة الأرقام الثلاثة.
أما على صعيد تشخيص الداء، ووصف الدواء، فلم تخرج تنظيرات الموالين عن النهج المُعتاد، باستثناء بضع إشارات جريئة. فالحكومة ممثلةً برئيس مجلس الوزراء والوزراء، إلى جانب المصرف المركزي، هم المسؤولون عن هذا الانحدار المعيشي غير المسبوق في حياة السوريين. فيما أبرز “دواء” تم الترويج له، هو التبشير بانتهاء عهد هذه الحكومة، مع انتخاب “مجلس شعب” جديد خلال العام الحالي. وهو “دواء” أشبه بالنكتة، بالنسبة للسوريين. فيما مرّر اقتصاديون اقتراحات جزئية وحلولاً تنظيرية عامة، لم يطل أي منها، أسس الاقتصاد السياسي القائم في البلاد، والمسبب الرئيس لهذه المجزرة المعيشية المتواصلة.
ووفق أرقام الإعلام الموالي، تجاوزت نسبة التضخم في سوريا خلال العام 2023، الـ 150%، فيما ارتفعت أسعار الخضار، وهي أبسط مستلزمات الحياة، بنسب تراوحت بين 100% في حالة البندورة والخيار، و300% في حالة البطاطا، إلى 1900% في حالة الثوم. وعلى نفس المنوال، حلّقت الفواكه بنسبة ارتفاع تراوحت بين 150% في حالة الموز، و260% في حالة التفاح. أما السلع الغذائية، فتجاوزت نسبة ارتفاع أسعارها، وسطياً، 200%. وارتفعت الألبان والأجبان بنسبة وسطية، 50%.
وانعكس ذلك على متوسط تكاليف معيشة الأسرة السورية. وأقرّ الإعلام الموالي أن عائلة من 5 أفراد، بحاجة إلى 10 ملايين ليرة سورية شهرياً، لتعيش في ظروف معيشة متوسطة الحال. علماً أن وسطي الأجور يتراوح ما بين 300 إلى 500 ألف ليرة شهرياً. والحد الأدنى للأجور، الذي ارتفع “اسمياً”، بنسبة 100%، خلال 2023، والذي تم تحديده بنحو 185 ألف ليرة، يغطي فقط 4% من تكاليف المعيشة التي يمكن أن تقي الأسرة السورية من الجوع، والتي تم تقديرها بنحو 4.5 مليون ليرة شهرياً.
وإن كان العام 2023، هو الأسوأ في تاريخ السوريين، معيشياً، فقرارات حكومة النظام في الأيام الأولى من العام 2024، تنبئ بأن ما سبقه قد يكون هَيّناً، مقارنة بالآتي. فقد افتُتِح العام بزيادة أسعار السلع الغذائية في المؤسسة السورية للتجارة. ومن ثم، حلّق النظام بسعر مبيع المازوت المدعوم المخصص للآليات، بنسبة ارتفاع 500%، من المتوقع أن تنعكس زيادة في أسعار مختلف السلع، بنسبة لا تقل عن 20%. وقد تمت تهيئة السوريين لقفزة نوعية جديدة في أسعار الكهرباء السياحية والصناعية، بنسبة تقترب من 250%، والتي ستنعكس بدورها، على أسعار السلع أيضاً.
أي أن نفق الانحدار المعيشي في حياة السوريين، سيوغل أكثر خلال العام الجديد. فكيف يمكن وقف هذا الانحدار، أو لجمه؟ سؤال تطوّع للإجابة عنه، عدد من المنظّرين في الإعلام الموالي. فطالب أحدهم بترشيد التصدير، لتحقيق وفرة من السلع الزراعية في الأسواق، متجاهلاً حاجة القطاع الزراعي للتصدير كي يحقق إيرادات تمكنه من الصمود في ظل انهيار القدرة الشرائية في الداخل. فيما طالب آخر بضبط الأسواق باستخدام “التموين”، وهي الوسيلة المُجرّبة والتي لم تفلح يوماً، منذ تسعينات القرن الماضي. فيما طالب ثالث بزيادة دور المؤسسة السورية للتجارة، بعرض السلع بأسعار أقل من الأسواق، متناسياً العجز المالي الجلّي لدى حكومة النظام. وطالب رابع، بالمزيد من دعم المزارعين بالأسمدة والمحروقات، وكأنه من كوكب آخر، لم يعش خضّات نقص المشتقات البترولية في الأسواق على مدار السنوات الخمس الفائتة، والتي كشفت عورات الحكومة ومقدار عجزها، ناهيك عن السطوة الروسية على ملف الأسمدة وصناعتها. فيما اقترحت وزيرة اقتصاد سابقة، توفير تمويل لمشاريع تنموية لامركزية، في البلديات، وتمويل آخر للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، قبل أن تشير إلى المعضلة الأساسية التي تخفّض من كفاءة النشاط الاقتصادي، وتُثبط العملية الإنتاجية، وهي تدني القدرة الشرائية لأغلبية السوريين. فطالبت بتحسينها، دون اللجوء لزيادة الرواتب، تجنباً للمزيد من التضخم. فكيف يمكن زيادة القدرة الشرائية للسوريين؟ سؤال سكتت الوزيرة السابقة، عن إجابته، لكنها ألمحت إليه عبر المبدأ الاقتصادي الشهير، “دعه يعمل.. دعه يمرّ”، في إشارة مبطّنة إلى حواجز الفرقة الرابعة، وحملات المكتب السرّي التابع للقصر الجمهوري ضد التجار والصناعيين.
منظّرون قلّة، في الإعلام الموالي، تطرقوا إلى داء السوريين ودوائهم. فـ “أصحاب الملايين وينابيع المال الفاسد، لا يقبلون لغسل مالهم إلا الدولار”، حسب أحد التوصيفات الجريئة في الإعلام الموالي. لذا يصرّ النظام على احتكار مصادر القطع الأجنبي، ويجهد لعدم الإفراج عنه، إلا للضرورات القصوى. ويتجاهل استمرار السوق السوداء النشطة. وذلك لاحتكار “الدولار” كأداة سيطرة ومصدر إثراء له، وللقطط السمان المقرّبة منه.
ومن هذه الزاوية، مرّر أحد الخبراء الاقتصاديين اقتراحاً جريئاً. لماذا لا يُلغى قرار تجريم التعامل بالدولار، ويتم تسليم كل أو نصف الحوالات الخارجية بالدولار، وليس بالليرة السورية؟! هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تمرير هذا الاقتراح. لكن أي صدىً له في الأوساط الرسمية، غير متاح. لأن إتاحة الدولار لعموم السوريين من دون قيود، يعني أن النظام سيخسر أحد عوامل قوته غير الخشنة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت