قبل وفاة أبيه بشهور قليلة، زار بشار الأسد حلب وتجول في أسواقها، وتناول العجّة ، “نوع محلي مشهور من الأومليت”، في أحد مطاعمها. لم تكن الزيارة في حد ذاتها حدثاً، فقد كان كثير الزيارات إلى المدينة وله “أصدقاء” فيه. المميز في تلك الزيارة كونه الرئيس آكل العجّة، لمعرفة الجميع بقرب موت أبيه، ثم الهتاف الذي أطلقه تجار في السوق “يا أبو حافظ غيِّر لنا المحافظ”، وكان التذمر قد اشتد من المحافظ الذي شاعت أقاويل عن فرضه أتاوات على التجار لقاء التراخيص المتعددة الضرورية لمزاولة مهنهم.
لبّى بشار المطلب، فأقال المحافظ وعيّنه رئيساً للوزراء، مع تنويه استثنائي غريب بنظافة كفه كناية عن عدم فساده! سيرحل المنوَّه به متأثراً بإصابته بكورونا نهاية العام الفائت، وهو في منصب “رئيس اللجنة الشعبية العليا لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني”. قبل ذلك بسنوات، كانت أسواق حلب التي تجوّل فيها بشار قد دُمرت، ولنقلْ دُمّرت بالحرب التي تحدث عنها في خطاب قسمه الأخير، لكن دمارها ودمار البلاد ووفاة رئيس اللجنة العليا لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني لم يغيّروا جميعاً طبع “الرئيس المتواضع”؛ آكل العجة في أيام خلت، وآكل الشاورما بعد الانتهاء من مراسم أداء قسمه الرئاسي الأخير.
يخبرنا طبيب ممّن زاملوه في مستشفى تشرين العسكري، أيام لم يكن يُعدّ كوريث، أنه مرةً انضم إلى رحلة وكانت الترتيبات قد انتهت، ومن ضمنها استئجار باص للذاهبين. على عادة تلك الأيام، كان الباص من الماركة السورية الأشهر “هوب هوب”، ولا وجود لبدائل أخرى يمكن استئجار واحد منها. مَن اعتاد في القصر على أفخم السيارات وأحدثها لا بد أن ينظر باستغراب شديد إلى ذلك الباص، وهكذا كان أن تملَّكه الفضول فطلب من السائق أن يخبره عن مفاتيح اللعبة العجيبة، ثم أخذ مكانه ليختبرها بنفسه، وليستغرق عميقاً في ما يراه بعين القادم من كوكب آخر فيقودها طوال الطريق. من المرجح أن فكرة ذهابه في تلك الرحلة كانت لعبةً يشارك من خلالها أولئك العاديين، وما لبثت أن أفضت به إلى لعبة أخرى ميكانيكية انشغل بها عن لعبته الأصل.
وهو في الخامسة من عمره صار ابن الرئيس، وقبل أن يكمل شهره السادس كان قد صار ابن وزير الدفاع الذي سينقلب على زملائه لاحقاً. هو لم يعرف الحياة العادية، وليس المقصود بذلك العيش العادي للفقراء أو المهمشين، بل أيضاً العيش الاعتيادي للأثرياء الذين يمنحهم ثراؤهم سلطة تبقى ضمن الحيز المجتمعي فلا تنفصل عنه وتعلو عليه بالمطلق. في حالته، لن يكون الانفصال عن الواقع تهمة، حتى إذا رأينا معارضين يتشدقون بها وكأنهم بدورهم اكتشفوا لعبة غريبة، فهو نشأ حقاً في ذلك الانفصال، ولم يعرف غيره إلا من خلال رحلات خاطفة.
نزل بشار وعائلته إلى حي الميدان، الأمر يعادل تماماً القول أن العائلة ذهبت في زيارة خاطفة إلى سوريا، وتناول أفرادها طعاماً محلياً كما يفعل عموم الزوار إذ يتذوقون أطعمة البلاد التي يرتادونها. الوريث الذي نشأ في قصر خلّف أبناء في قصر أوسع، يُحضّرهم لحكم البلاد التي زاروها رفقته يوماً، وتناولوا فيها سندويش الشاورما.
رويداً رويداً، مع اشتداد سلطته وتقوقعه الشخصي في محراب استبداده، انفصل حافظ الأسد عن الواقع المحيط به، إنما بعد أن كان قد عاشه في طفولته وشبابه. كان مشروعاً للاستحواذ على السلطة المطلقة وعدم إفلاتها، وكان لا بد للتنسك في الاستبداد من أن يفصم صلته بالواقع الذي توقفت معرفته به عند اغتصابه الحكم. لن تفيد عشرات أفرع المخابرات وآلاف الأطنان من تقارير مخبريها في تقريبه من الواقع، إذ لا شيء يعوض العيش الحقيقي الذي قرر عدم العودة إليه عندما قرر البقاء في السلطة ما دام حياً.
ما بدأ مع المؤسس الأب سيستمر بأسوأ مما سبق، فنحن أمام جيل جديد من الأجانب تماماً عن البلد الذي تحكمه العائلة، وإذا كان الأب قد انقطع عن تجربته الشعورية مع البلد فإن الأولاد والأحفاد لم يعيشوها أصلاً. لا شيء عوّض وسيعوّض هذه الغربة سوى العنف، المباشر الوحشي أو الصامت والمديد، فالعنف هو السبيل الأقرب للسيطرة على أولئك العاديين المجهولين الذين لا تعرفهم العائلة، والنفاق هو التجلي الإعلامي للعنف ومحاولة التغطية عليه.
في أنظمة التوريث الملكية قد يحدث الانفصال عن الواقع أيضاً، لكن الوضعية الخاصة للعائلة المالكة تجعل منه شأناً اعتيادياً وقد لا يترك أثاراً على ممارسة الحكم. هنا كان العنف قد استُخدم في ما مضى، وأسس لمرة واحدة للتوريث، بخلاف توريث الجمهورية، فوريث الجمهورية لينتهك يومياً النص الدستوري يمارس العنف. إنه عاجز عن ممارسة العنف لمرة واحدة، يعلن فيها نفسه ملكاً، والمفارقة هي في جعل المحكومين يدفعون الثمن الأفدح لأن التاريخ تجاوز زمن إنشاء ممالك جديدة.
يملك بشار، كنموذج عن العائلة والأسرة، سببين لممارسة العنف بأقصاه ومختلف أنواعه. فهو أولاً منفصل شعورياً عن البلد الذي دمّره؛ إنه لم يعش كالبشر الذين تربطهم بالمكان تلك العلاقة الاعتيادية الحميمة؛ العلاقة التي لا تخلو أحياناً من نفور أو ملل كأية علاقة حب أو ود؛ العلاقة مع الأمكنة وشخوصها الذين يتبادلون في ما بينهم الخدمات والمنافع بحكم مهنهم وأعمالهم، وأحياناً لأسباب عاطفية أو انفعالية. هي أيضاً علاقة الصداقة التي تنشأ مع المكان وبين المتقاربين، وقد لا يندر فيها أن يتخلى صديق عن صديق أو أن يطعنه في ظهره، أو أن يتخلى فيها حبيب عن حبيب مسبباً له جرحاً عميقاً. هذا ما لا يعرفه وريث الانفصال عن الواقع وعن المجتمع، وعن مجمل العلاقة الشعورية التي نسمّيها وطناً، إذ من الذي سيجرؤ أن يكون، بالمعنى الحقيقي، صديقاً أو حبيباً لشخص قادر على البطش به متى يشاء؟ وهو ثانياً واقعٌ في الانفصال القائم في تعبير “جمهورية وراثية”، حيث لا يمكن سوى للبطش أن يضع الكلمتين جنباً إلى جنب، فلا هو قادر شكلاً على إزالة الجمهورية، ولا هو راغب في التخلي عن التوريث.
قد تتيح الظروف الدولية لآكل الشاورما البقاء في الحكم، وربما توريثه، هذا لا يغيّر من واقع أن وجود هذه العائلة مشروع حرب وعنف، قد تخبو أحياناً وتستعر أحياناً أخرى. العلّة هي تماماً في المشهد الذي أُريد له القراءة على نحو مغاير، مشهد العائلة التي تأكل السندويتشات وسط جمهرة من المتفرجين، فالعائلة تنظر إلى أولئك العاديين كفرجة استثنائية، وكذلك ينظر إليها العاديون. حتى الكلام الذي ملأ صفحات المؤيدين عن الرئيس وأفراد عائلته المتواضعين يكشف الزيف، ففي الأصل لا يوجد رئيس متواضع، لأن الرئيس المنتخب حقاً هو رئيس الجميع وجزء من واجباته التي لا يُمتدح عليها أن يكون “متواضعاً”.
وسط هذه المهزلة الدموية، لا مكان للتساؤل عن المأثرة في أن تأكل العائلة الحاكمة الشاورما، وتروج صورها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بينما نصف السوريين على الأقل يعاني من المجاعة لا الفقر فحسب. ولعل في عدم التساؤل دلالة على تفاقم المهزلة كأفق وحيد متاح، ومن يريد دليلاً إضافياً عليه بقراءة مقال في جريدة “البعث” أو الاكتفاء بعنوانه وهو: الإنسان في خطاب القسم.. القيم الوجودية في فلسفة الرئيس الأسد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت