لم تمض ساعات على تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي أعلن فيها عن تأمينه مناطق شاسعة في الشمال السوري المحرر، حتى دوّت انفجارات لم تقع بهذه القوة منذ عام في مناطق جبل الزاوية، حيث القاعدة العسكرية التركية على مقربة منها، فأسفرت عن مقتل عدد من قيادات عسكرية ومدنية لهيئة تحرير الشام، بينما كانوا يسعون لإسعاف مدنيين استهدفتهم من قبل صواريخ روسية ليزرية يسعى المحتل الروسي لتجريبها، وهو الذي أعلن قبل فترة أنه جرّب 300 نوع من الأسلحة بعضها وصفه بالفاشل في تحقيق أهدافه، مما دفعه بحسب تصريحات رسمية إلى استقدام مهندسين مصممين لقاعدته حميميم؛ ليعدلوا على تصميم هذه الأسلحة الفاشلة وفقاً لاحتياجات الاستخدام المقبل.
وكي تكون الرسالة البوتينية قبل لقائه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في سويسرا الأربعاء المقبل واضحة، فقد وقع استهداف لمشفى الشفاء في عفرين بقصف مدفعي متطور؛ قيل إن مليشيات قسد الكردية المدعومة أمريكياً هي من نفذت الهجوم، وأسفر عن مقتل وجرح 65 مدنياً بينهم طواقم طبية وإسعافية. ولكن لاحقاً نفت مليشيات قسد على لسان زعيمها عبدي مظلوم مسؤوليتها عن الهجوم، كما رجح خبراء عسكريون أن يكون التنفيذ روسياً أو من قبل النظام السوري وحلفائه الإيرانيين.
والظاهر أن رسالة بوتين هذه المرة كانت أشد وضوحاً لأردوغان، فالهجمات على إدلب ليست كالهجمات على عفرين الخاضعة للسيطرة التركية بشكل شبه مطلق، بينما إدلب لا تزال تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، وبالتالي فمبرر القصف الروسي هناك ليس كمبرره في عفرين؛ الذي في حال تأكد أن المنفذ روسي فإنه يريد أن تكون الرسالة واضحة لا لُبس فيها بأنها تستهدف التركي، لا سيما وأن القمة التركية- الأمريكية وشيكة.
سبب ترجيح الخبراء والمحللين للمسؤولية الروسية لا الكردية؛ هو أن الأخيرة لم يسبق أن قصفت المشافي من قبل بهذه القوة التدميرية والدقة، أضف إلى أنه سيُحرج كافلها الأمريكي عالمياً، بالإضافة إلى أنها لا تملك مدفعية وصواريخ دقيقة توفر لها إصابات مباشرة، وقوة تدميرية هائلة كما رأينا. وكانت بعض الحسابات المقربة من مليشيات قسد قد سارعت إلى نفي مسؤولية المليشيات عن الهجوم.
لا شك، ثمة فتور تركي- روسي، في ظل التقارب التركي- الأمريكي؛ ومن ذلك على مستوى الساحة السورية بالتنسيق الثنائي الذي ظهر في استحداث معابر إنسانية بديلة عن معبر باب الهوى لتفادي الفيتو الروسي الذي يبتزّ به الكل، ويلوح به الشهر المقبل حيث اجتماع مجلس الأمن لتمديد استخدام المعبر اليتيم المتبقي، والذي تركه الروسي بعد أن أغلق المعابر الأربعة الأخرى على مدى جلسات مجلس الأمن الدولي في السنوات الماضية. ونجاحه في إغلاق معبر باب الهوى يعني حرمان ملايين اللاجئين السوريين من المساعدات الإنسانية.
لعل ما أقلق موسكو هو تلميحات تركية للاستعداد للمساومة على صفقة إس- 400 مقابل دعم واشنطن لإقامة مناطق آمنة حقيقية في الشمال السوري المحرر، إذ باتت أنقرة تدرك تماماً أن لا مناطق آمنة ممكنة عبر تنسيق ثنائي مع موسكو، وأنه لا بد لتحقيقها من التنسيق مع أمريكا مباشرة، فهي القادرة على تأمين ذلك وفرضه. ولعل هذا ما سبقه تحسين في العلاقات التركية مع فرنسا، وتبريد أو تحسن في العلاقات مع مصر والسعودية، أملاً في أن يساعد في استراتيجية تركيا المقبلة.
واستعدّت تركيا أبعد من الساحة السورية، لمساعدة واشنطن في مرحلة ما بعد انسحابها من أفغانستان، حين أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار عن الاستعداد لتأمين مطاري كابول وباغرام وغيرهما؛ بعد الانسحاب الأمريكي والغربي من البلاد، لكون تركيا جزءا من قوات الناتو، مقابل شروط معينة لم يُكشف عنها، وربما تتعلق بالساحة السورية. لكن الرد الطالباني كان سريعاً حين هدد بالتعامل مع أي دولة تبقي قواتها في أفغانستان كدولة احتلالية، وهو الأمر الذي أفسد على تركيا ميزة مهمة في سوق المساومات مع واشنطن.
بوتين الذي ينتفش بانتصار مزيف في سوريا، يواجه بالتأكيد مأزقاً اقتصادياً؛ حقيقياً إن كان بسبب العقوبات الغربية عليه في داخل روسيا، أو بسبب العقوبات على النظام الذي يدعمه في دمشق، ولذا فهو يريد دعماً أمريكياً لفك عزلته، بالإضافة إلى الثمن الباهظ الذي يستنزفه في سوريا لحماية النظام. ولكن يبدو أن بايدن ليس في عجلة من أمره لمدّ طوق النجاة لبوتين، خصوصاً وأن الفاتورة المالية التي يدفعها بوتين مع حليفه الإيراني للنظام في سوريا كبيرة، وهو مرغم على دفعها وإلاّ فستخلق له توترات وتشنجات اجتماعية في الحاضنة السورية، مما يعني انقلاباً حتى في الحاضنة عليه؛ كونه المسؤول المباشر عن واقعها الاقتصادي.
وهنا تنبغي ملاحظة تحول البادية السورية إلى مثلث برمودا حقيقي أو ثقب أسود للقوات الروسية والرديفة لها، بالإضافة إلى التردي في المنطقة الجنوبية، وهو الذي قدّم نفسه على أنه قادر على دمج الثوار المتمردين على الأسد من خلال الفيلق الخامس.. كل هذا يشير إلى أن موسكو بقدر ما تصور على أنها المتسيّد للمشهد السوري، إلاّ أنها تغرق برماله أكثر، والدليل تسيّدها لمشهد قصف ودمار وخراب يستنزف سمعتها داخلياً وخارجياً، تماماً كحال حليفتها إيران.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت