الضربة الأمريكية على سوريا: الحضور الباهت
منذ تحويل النظام السوري الجغرافيا السورية لصندوق بريد يسمح بتلقي كل رسائل العدوان على الأرض والبشر والحجر، كَثُرت العناوين والتفاصيل المؤدية لشرح ما يُقرأ خلف دخان القنابل.
الغارة الأمريكية الأخيرة على الحدود العراقية السورية التي استهدفت مواقع تتبع مليشيا إيران المساندة لقوات النظام؛ لم تكن الأولى أمريكياً، لكنها فاتحة عهد الإدارة الجديدة بزعامة جو بايدن، ومكملة لسلسلة غارات روسية وإسرائيلية مستمرة منذ عشرة أعوام بشكل يومي أو أسبوعي، لذلك تبدو الغارات أو الضربات العسكرية لمواقع النظام والمليشيات الإيرانية امتدادا طبيعيا لحملة العدوان التي يتعرض لها الشعب السوري، بغض النظر عن إحداثيات القنابل والصواريخ التي تستهدف تارةَ الشعب السوري أو الأدوات التي تقتله تارة أخرى.
تبدو شمولية الغارات من حيث وصولها لأي بقعة جغرافية، أو من حيث التنسيق الواضح بين قوى العدوان المختلفة، روسية وأمريكية وإسرائيلية، أو إيرانية وأسدية وتركية وبريطانية وفرنسية؛ توضيحا للأدوار المكملة لبعضها البعض، في تدمير وتبديد قوة وحقوق السوريين أرضاً وشعباً. ولا تزيد الغارة الأمريكية على مواقع مليشيا إيران سوى إضافة سمة ممجوجة عن تبرير الضربة الأمريكية بـ”تحذير” طهران من التمادي والتمركز في العمق السوري، أو لتعطيل الرسائل الإيرانية المفتوحة على عناوين نفوذها من بغداد إلى دمشق وبيروت وصنعاء، وما التباكي الروسي الإيراني مع نظام الأسد على السيادة السورية المخترقة من هؤلاء إلا تبيان لملمح عناوين تعني مصالح رماة الرسائل بعيداً عن مصلحة الشعب السوري.
التموضع الإيراني في سوريا، أو تمدد نفوذها في المنطقة، لم يتم بالخفاء بعيداً عن مصالح مرسلي الرسائل في صندوق بريد الأسد والجغرافيا السورية. فقواعد الاحتلال المختلفة تتصارع على اقتسام غنائم قُدمت لمحتل روسي وإيراني، كما قدمت من قبل للإسرائيلي في هضبة الجولان منذ أكثر من نصف قرن. الثمن المعروف، في حده الأعلى تنديد بالعدوان طالما يكمل مهمة الأسد دون المساس بوظيفته. والسيادة مفهومها بالحدود المتاحة للنظام السيطرة على المجتمع السوري. أما بالنسبة لتزاحم الغارات والضربات فلا مشكلة معها مطلقاً، فهي تؤمن الدعاية والتبرير للأطراف التي تقدم نفسها ضحية الاستهداف واختراق سيادتها.
التنديد الروسي بالضربة الأمريكية والحرص على السيادة يعني سيطرة الأسد بقوة موسكو التدميرية على الأرض، وبقاء قواعد احتلالها العسكري والاقتصادي المربوطة مع بقاء الأسد ونجاته. وبالنسبة لطهران، تعني تأمين مجال المصالح والتفاوض بملفها النووي والصاروخي مع الولايات المتحدة وتغليفها بشعارات فلسطين وغيرها. والتمدد الإيراني بالنسبة للإدارة الأمريكية ورقة ابتزاز وتفاوض على أوضاع المنطقة، وللإمساك بخيوط لعبة تُدمي المجتمع السوري ومجتمعات عربية أخرى.
المثير في الغارة الأمريكية الجديدة في عهد جو بايدن، تثبيت الحضور الأمريكي الفاعل في لعبة الضربات المتلاحقة التي تتعرض لها الجغرافية والسيادة السورية، حضور باهت ومختلف عن حضور الضربات الروسية والإسرائيلية، وعمليات المليشيا الإيرانية وقوات الأسد على الأرض، ولا تتعدى أكثر من تثبيت عنوان “إننا هنا” في معمعة الانكفاء عن الساحة السورية وممارسة النفاق الدولي الذي ظهرت عليها في حقبة ترامب، وبعد أن سهلت إدارة سلفه باراك أوباما التمدد الإيراني الذي تشكو منه على الساحة السورية وفي المنطقة.
وتبقى المساحة المتروكة للنظام من مناورة وهامش للجريمة، تدخل في صلب تلك الضربات المتعددة.. الاحتلال والهوية. وكل الأعمال العدوانية التي تأتي من خارج الحدود وتنتهك السيادة السورية المنتَهكة أصلاً بثقوب عدة حفرها استبداد النظام، تؤشر لعمق مأساة السوريين مع نظام مجرم ومع قوى الاحتلال المختلفة.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار المواجهة الأمريكية مع إيران أو مليشياتها في سوريا على أنها معركة لمساندة الشعب السوري، لكن الأكيد أن كل الأطراف المعنية بالملف السوري أو الإيراني والعراقي اختاروا الساحة السورية لإرسال رسائل الحضور المساند للنظام، بعيداً عن تطلعات الشعب السوري.
حتى الآن، ما جرى تنفيذه على الأرض ليس سوى إعادة تمكين النظام من السيطرة بأي شكل من الأشكال، والاستفادة من الضربات بشعاراته وسيطرته، وقد انتهى الأمر بتدمير مقدرات السوريين الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية. وهذا الشكل يمكن العثور على براهينه في كثير من الأمثلة والمواقف اليومية التي تشهدها الساحة السورية، أو تلك المتعلقة بمواقف الإدارة الأمريكية من الملف السوري وحضورها الباهت بضربات وغارات لن تغير من واقع تبادل الإفادة بين المحتل والمستبد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت