“إنتو فلتّو”!… هكذا يخاطب محمد صابر الشرتح جمهوره عبر فيسبوك، ومِن خلفهم جميع السوريين، متوعداً إياهم بأقصى درجات الشدة حين سيتولى الحكم في القريب العاجل، مشبّهاً نفسه بالحجاج بن يوسف الثقفي تارة، وبهولاكو تارة أخرى.
ما الذي سيدفعهم لانتخابه إذاً؟ لا شيء. الاختيار غير مطروح أصلاً، وقد أوضح ذلك أكثر من مرة. فالنمر، كما يقدِّم نفسه مزهواً بلقب عائلته الشائع شعبياً في بلدتها حاس بجبل الزاوية بريف إدلب، ليس «مرشحاً» للرئاسة مثل آخرين. بل «مفروض من المجتمع الدولي» لقيادة المرحلة الانتقالية التي تتأسّس على القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، والذي يقضي بدعم عملية انتقال سياسي، بقيادة سورية تتشكل من المعارضة والنظام، تمهد الطريق لصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة.
قبل ذلك لا يحق للسوريين، الذين «فلتوا»، تحديد رئيس هذه المرحلة. يفعل المجتمع الدولي ذلك. وقد قام هذا المجتمع بمهمته، واختار محمد صابر الشرتح ليكون رئيس سوريا الحرة القادم، «غصباً عن شواربكم» كما يكرر الرجل مراراً، دون أن يوضح متى جرى هذا التوافق؟ وأي الدول أسهمت فيه؟ ولماذا وقع اختيارها عليه وهو بلا تاريخ سياسي يُذكر؟
فقبل أن تصيبه لوثة الرئاسة كان أبو جميل لاجئاً عادياً في السويد. وكان قد انسجم مع تلك البلاد، التي وصل إليها في الخمسين من عمره، عام 2014، إلى درجة إطلاق اسم ملكها، كارل غوستاف، على أصغر أبنائه المولود هناك.
وقبل ذلك لم يعِش محمد حياة منتظمة. منذ ولد في أسرة مزدحمة كأكبر الأولاد الذين خلّفهم والده جميل، الشرطي في معرة النعمان المجاورة، الذي يتذكره أبناء المنطقة، مع أخيه سليم، كأول من أدخل إليها جمعية «الإمام المرتضى» التي أسسها جميل الأسد شقيق حافظ. حاز محمد الشهادة الإعدادية وسارع إلى التطوع في الجيش، ليبدأ حياة عسكرية قلقة لم تطل، افتتحها بالفرار من الدورة وختمها بضرب ضابط مما أدى إلى تسريحه، وسجنه في المرّتين. بينهما قضى سنوات من خدمته مفرزاً إلى المخابرات العسكرية في لبنان، حين كان الجيش السوري هناك، مقرّباً من غازي كنعان، رئيس فرع الأمن والاستطلاع، بل «مديراً لمكتب» هذا الضابط الشهير، كما كان يزعم في إجازاته في القرية التي كان أهلها يحبونه ويستمتعون بمبالغاته دون أن يصدقوها.
في السابعة والعشرين وجد محمد نفسه في العراء. فقرر أن يشقّ طريقه على أطراف العاصمة، كواحد من مئات آلاف المهاجرين إليها من الأرياف. في منطقة السيدة زينب، جنوب دمشق، سيفتح كشكاً لبيع الدخان والمرطبات والحاجيات البسيطة، وسيتعهد بعض الأعراس ويقدِّمها، حتى ينتهي به الأمر، قبيل الثورة، مالكاً لسيارتي أجرة يتناوب عليهما سائقون، ولبناء من ثلاثة طوابق في بلدة يلدا تقيم فيه أسرته التي توسعت بعد عدد من الزيجات، وفقد بعض أفرادها بالقنص حين احتدمت المعارك بين الجيش الحر وقوات النظام في المنطقة، وأصيب هو، فقرر العودة إلى قريته.
هناك سيمنحه العمر والتجربة النسبية والطلاقة في الكلام موقعاً لا بأس فيه. وسيكون ضمن الوفد الذي التقى رئيس فرع الأمن العسكري بإدلب، الذي حاول استمالة البعض للانخراط في صفوف القوى «الرديفة» (الشبّيحة)، وسيحاول إقناع محمد، مستنداً إلى ماضيه وإلى عائلته المحسوبة على النظام. غير أن أبا جميل سيرفض وسيحافظ على انحيازه للثورة، لكن التي أخذ إيمانه بقدرتها على الانتصار يتراجع تدريجياً، حتى غادر إلى تركيا ثم عبر البحر إلى أوروبا حتى حاز اللجوء في السويد.
في مقاطعة أوسترا يوتلاند سيقضي سنوات مملة بعد أن أتم إجراءات لم شمل من استطاع من أسرته. استقر وضعه المادي مع توالي رواتب اللجوء. اشترى سيارة صار يقودها في مشاوير طويلة يستمع خلالها إلى الحفلات الشعبية التي يحبها. حتى طلع على محيطه، في منتصف آذار 2020، بوجهه الجديد بوصفه القائد النمر، «رئيس الجمهورية السورية الديمقراطية الحرة».
بدأ الشرتح ببث كلمات متقطعة، ورصينة نسبياً، من بروفايل شخصي على فيسبوك. يفتتحها بالنشيد الوطني الذي يستمع إليه بإجلال واضعاً يده على صدره، مرتدياً بدلات رسمية أنيقة ومتحدثاً بجدية مناسبة. وفي ظل الضياع الذي يعيشه السوريون، والإيمان السائد بأن الحل «سيُفرَض من الخارج» فقد قال بعضهم «ربما»! أما عندما أخذت بوادر الاضطراب تظهر على «الرئيس» الذي صار يُكثر من الظهور، فقد تلقفه جمهور الموالاة ليستدل به على خبل المرشحين الذين «تطرحهم المعارضة»!
غير أن النمر لم يستهلك وقتاً طويلاً ليبدد أي احتمال عن جديته لدى أي من الأطراف، مع تخففه من الفصحى المكسّرة التي كان يتكلمها لصالح عامية يتحدثها بسرعة وانفعال وهو يقذف الشتائم يميناً وشمالاً، مفتتحاً بثه بالأغاني الشعبية التي يدبك على إيقاعها أحياناً، مكرراً لازمة صارت أحد مميزات ظهوره وأمارات «ترندِه» هي: «زبلّعجي ولاك»!
كلمة الزبلعجي تنويع محلي على وصف «زَبَلَّعي» ذي الأصل الآرامي، المنتشر في لهجات بلاد الشام، وهو يعني «الشخص عديم التربية، سيئ الخُلق، كثير المفاسد». والزبلعجية، عند الشرتح، كثيرون بين السوريين، من بشار وطاقم حكمه وعسكره ومناصريه، حتى أعضاء الائتلاف المعارض والإخوان المسلمين والجهاديين وقادة الفصائل ومقاتليهم، بعد أن تلاشت الثورة بمقتل «الأحرار» في سنواتها البكر الأولى، حتى لم يبق من «الشرفاء» إلا عدد قليل هم الذين يعِدُهم الرئيس المفترض القادم بحياة ديمقراطية كريمة، بغض النظر عن مكوناتهم الطائفية أو العرقية، في سوريا الجديدة.
وفي الحقيقة أننا إذا جرّدنا ظهورات الشرتح من شكلها الهزلي فإن محتوى خطابه معقول جداً بالنسبة إلى كثيرين. فهو يرتكز إلى الوطنية السورية التي يجب أن تقود «الإخوة» إلى التحاور ووقف شلال الدم، وتقديم المسؤولين عنه إلى المحاكم، وبناء البلاد بالاستفادة من المعونات الدولية الهادفة إلى إعادة سوريا إلى العالم، ضمن شرق أوسط جديد لا مكان فيه للحروب، بما فيها الصراع التاريخي مع إسرائيل.
كن المحتوى ليس مقصود الجمهور المتوسع، الذي يصل بالبث إلى مئات ألوف المشاهدات وعشرات ألوف التعليقات. ويتراوح بين معارضي النظام ومؤيديه، في اجتماع لم يعد يحدث. وهدف الكل هو الضحك، الذي ليس أمراً بسيطاً كما يبدو.
بقفزه فجأة من هامش المشهد إلى قمته يهين الشرتح جملة من المعطيات الصلبة الدامية؛ موازين القوى، والمآل البديهي للصراعات، وهيبة «مقام الرئاسة» الذي هو عقدة المسألة السورية وباب حلها. وهو لا يهين البنى المتخشبة للمعارضة فقط بل يدنّس قيمها المفترضة حين يتوعد «مواطنيه» بالصلب والضرب، بشكل «سيتحدث عنه التاريخ» ما لم يسيروا على صراط القانون والتقدم والحريات والتعايش السلمي!!
في خلفية حضور الشرتح يتلامح قراقوش وجحا. وفي ثنايا كلامه تندّ عبارات تمكن نسبتها إلى صدام حسين أو حافظ الأسد. بل إن النمر، في أحد وجوهه، هو بشار الأسد الهزلي. فما الذي يقوله بشار سوى العبارات الوطنية والعلمانية والقانونية والعادلة، وما الذي يفعله غير السلخ والقمع والإبادة؟
على مسرح الشرتح يشاهد السوريون قصتهم لكن كملهاة، بعد أن عاشوها كتراجيديا فاجعة. ينظرون إلى حاكمهم عارياً دون زينة، متغطرساً وبذيئاً وعميلاً للخارج. لكن دون نتائج كارثية كما حصل في الواقع. إنها مجرد تمثيلية يمكنك تركها متى تشاء، ووحشها فاقد للأنياب.
يبدو الشرتح مسلياً طالما أن أقصى ما يمكنه فعله هو الصراخ في وجهك «ولاك». طاغية في أسر الشاشة. لا خيل عنده يركبها ولا دوريات ولا معتقلات ولا دبابات ولا طيران. القتل هنا لعبة والدم خدعة والسيّاف مجرد كومبارس. منه فقط يستمع موالو النظام إلى شتيمة رئيسهم دون أن يتشنجوا، بل يردّوا بشتائم لا تحمل الحنق في تعليقات ساخرة لاهية متكررة.
عبثاً يحاول الشرتح ضبط جمهوره. يلاطفهم حيناً ويسامحهم طوراً ويوبخهم على الدوام، بينما يتلبّسون دور الرعية المشاغبة أو المطيعة بإفراط. يسفح بعضهم في ولائه الشعارات المألوفة في قاموس الأسدية، بينما يتثبت آخرون في دائرة التجديف والفحش. يحزن «الرئيس» لهذا، وينبّه إلى أن «المركز الاستراتيجي العالمي» يراقب التعليقات وسيحاسب كاتبيها. هي لن تضرّه في شيء لأن من اختاره فعل ذلك بعد دراسة دقيقة لكل مفاصل حياته، منذ سُجن لدى النظام حتى صار أخيراً «دكتوراً باختصاص علاج فيزيائي سيكولوجي». ما يفعله هؤلاء لن يؤثر على خيار الدول الفاعلة، فالنمر قادم. لكن ما يأسف له هو الصورة التي يقدمونها عن السوريين.
يعلم الشرتح أن المهمة التي أمامه ثقيلة، بشعب من الزبلعجية، لكنه لن يتخلى عن واجبه تجاه وطنه الذي يعشقه وناسه الذين يحب رغم كل شيء. هو يتطلع إلى اليوم القريب الذي تتم الإطاحة فيه ببشار، على يد المجتمع الدولي، كي يبدأ تنظيف البلاد، معلناً أنه لن يترشح للانتخابات اللاحقة التي ستجري بعد أن يسلّم الحكم للشرفاء، وسيخلد إلى الراحة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت