منذ أن أكمل بشار الأسد تنفيذ مسرحية إعادة انتخابه في السابع والعشرين من أيار الماضي، ما برح يسعى إلى تعزيز هذا المُنجَز الموهوم بخطوات أخرى، ربما لظنه بوجود استحقاقات عليه أن يؤديها، علّها تسهم في تحويل المسرحية إلى واقع ملموس، وكان من المفترض أن تكون في طليعة تلك الاستحقاقات المفترضة معالجة الواقع المعيشي المزري الذي يرزح المواطنون السوريون تحت كابوسه الخانق، إلى درجة بات فيها التذمّر والاحتقان الشديد هو لسان حال أقرب المؤيدين والموالين لنظام الحكم، إلّا أنّ رأس النظام يدرك في قرارة نفسه أنه ربما من الميسور أن تبرع أجهزته الأمنية وآلته العسكرية في إحكام إخراجٍ ناجحٍ لمسرحية إعادة انتخابه، من خلال تكريس سطوة الخوف والاستمرار في كم الأفواه وترويع المواطنين، بل وقتلهم أو زجّهم في السجون إن دعت الحاجة إلى ذلك، ولكن بكل تأكيد، لن تبرع على الإطلاق في إحداث أي تغيير من شانه أن يؤدي إلى تخفيف معاناة المواطن السوري، ولو على المستوى المعيشي بالحدّ الأدنى.
الإرث الذي راكمته الدولة الأسدية خلال نصف قرن، يتيح لبشار الأسد اختيار الوسائل والآليات التي تُمكّنه من مواجهة أزماته الداخلية، ولعل أكثرها نجاعةً وفاعليةً هي تحويل تلك الأزمات من سياقها الحياتي – كحاجات وجودية للمواطن – إلى معارك خارجية توجبها المصلحة الوطنية، وحين تُذكر المصلحة الوطنية فهي تعني نظام الحكم حصراً وليس شيئاً آخر، ومن هنا كان استمرار الحرب على إدلب وشمال حماة حاجة ضرورية لنظام الأسد، من شأنها أن تعزز الشعور لدى موالي النظام ومؤيديه بأن ما يُشغل بشار الأسد عن معاناتهم الحقيقية هو انشغاله بما هو أكثر أهمية، أي حمايتهم من الإرهاب الذي يهدّد وجودهم، ودفاعه عن البلاد التي يهدّد سلامتها المواطنون المدنيون في مدن وبلدات وقرى إدلب، مع التأكيد دائماً على أن نظام الأسد ليس بحاجة إلى تبيان الأسباب والذرائع التي تتقوّم عليها حربه على السوريين، ذلك أن أيّة بقعة من الجغرافية السورية خارج سيطرته هي هدف مباح لآلة القتل الأسدية، إلّا أن ارتفاع منسوب التوحّش الأسدي منذ العاشر من تموز الجاري إنما هو أمر يتجاوز مسألة وجود مبررات العدوان، إذ بالتزامن مع حديث بشار الأسد أمام جوقة مؤيديه في قصر الشعب يوم السابع عشر من تموز الجاري، كانت طائراته وقاذفاته تصبّ لظاها على رؤوس بلدات وقرى جبل الزاوية في إدلب، مخلّفة أكثر من مجزرة في قريتي سرجة وأحسم، حيث قضى في تينك المجزرتين العشرات من المواطنين المدنيين، بل كان من الضحايا عائلات بأكملها. ولئن لم يكن ثمّة ما يردع النظام الحاكم عمّا فعله وما يزال يفعله بالمواطنين السوريين، إلّا أن سعير جرائمه ما كان ليزداد ضراوة لولا شعوره التام بالاطمئنان الذي تحوّل إلى حافز مستمر لتكرار الجرائم، ولعلّ أبرز بواعث ذلك الاطمئنان هو الموقف الدولي، متمثّلاً بالموقف الأميركي الذي حرصت الإدارة الأميركية على تكريسه وتكراره كلّما اشتدّت وطأة الحصار الاقتصادي على بشار الأسد.
ولئن بات الموقف الأميركي حيال القضية السورية شديد الوضوح منذ عهد إدارة أوباما، حيث بدا التدخل الأميركي في الشأن السوري محصوراً بالحيّز الذي يخدم المصلحة المباشرة لواشنطن، دون الملامسة الحقيقية لجذر المشكلة السورية، إلّا أن تكرار العبارة التي أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأميركي ( جوي هود ) في التاسع من الشهر الجاري، أي قبل خطاب بشار الأسد بأسبوع، حين أكّد القول:
(إن الولايات المتحدة الأميركية لا تسعى لتغيير نظام الأسد، بل لتغيير سلوك حكومته) إنما كان له وقْعٌ مضاعف في طمأنة الأسد الذي لم يعد هو المعني بتغيير السلوك، بل حكومته، وفقاً لجوي هود، وربما تبدّى للمسؤول الأميركي أثناء تصريحه أن من يقوم بقتل السوريين هي حكومة لها مرجعياتها المنفصلة عن الأسد، وربما كان بشار نفسه لا تتيح له صلاحياته إعطاء الأوامر لميليشياته بارتكاب الفظائع بحق المواطنين، بل ربما بدا هذا التصريح إقراراً موجَّهاً من إدارة بايدن إلى النظام وحليفه الروسي بأن موقف واشنطن الضاغط على الأسد اقتصادياً وسياسياً ليس معنياً بإزهاق أرواح السوريين بقدر ما يعنيه استجابة النظام للتوجه الأميركي الهادف إلى تقنين وضبط العلاقة بين دمشق وإيران فقط، ولعل رخاوة الموقف الأميركي من وحشيّة الأسد تجاه شعبه، كانت حافزاً مباشراً للصين، كي توفد وزير خارجيتها إلى لقاء الأسد في الثامن عشر من الشهر الجاري، ولعل المبادرة التي طرحها الوزير الصيني من دمشق، تؤكّد أن الموقف الأميركي من الأسد قابل للتعميم، بل ربما أصبح إجرام الأسد – وفقا لذلك – شأناً داخلياً يخص السيادة الوطنية ولا يحق لأحد التدخل فيه.
الحافز الخارجي المتمثل بالموقف الدولي غير الرادع لعدوان الأسد، يتساوى من حيث الأثر والفاعلية، مع حوافز داخلية أخرى، تجعل الأسد أكثر اطمئناناً لجرائمه المستمرة، ولعل أبرز تلك الحوافز الداخلية هي عدم القدرة على الردّ المماثل من جانب مجمل الفصائل التي يتشكل منها الجيش الوطني، وإن شئنا الدقة قلنا: إن تلك الفصائل لا تملك قرار الردّ، وذلك بحكم التنسيق القائم بينها وبين الحكومة التركية، ذلك التنسيق الذي لا تحتل فيه المصلحة السورية مكان الصدارة أو الأولوية، ولئن كانت القضية السورية موضع خلاف بين روسيا وتركيا، إلّا أن هذا الخلاف لا يمكن أن يكون سبباً في تعكير العلاقة الثنائية ذات المصالح المتشابكة، وبخاصة الاقتصادية والجيوإستراتيجية.
وفي موازاة عطب الإرادة العسكرية لفصائل المعارضة، ثمة عطب مماثل لدى كيانات المعارضة السياسية عن إبداء أي موقف خارج عن الحيّز الوظيفي الذي حُدِّدَ لها، ويبدو أن الأمر لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح، حين نجد أن تصعيد العدوان على إدلب كان تالياً للقاء أستانا السادس عشر في 6 – 7 – يوليو/تموز، وأن وفد المعارضة المشارك بهذا اللقاء جعل أولى مبررات مشاركته هو التأكيد على وقف إطلاق النار والحفاظ على أرواح المدنيين، وكذلك لا تبدو المسألة بحاجة مزيد من التفكير حين لا يجرؤ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة – بصفته ممثلاً سياسياً للثورة – على مجرد التلويح بمقاطعة أو تعليق المفاوضات مع النظام – وهي مفاوضات عبثية على أية حال – احتجاجاً على استهداف المدنيين في إدلب وسواها.
وإذا تجاوزنا المواقف الرسمية للمعارضة، والمحكومة أوالمرهونة لارتباطاتها الخارجية، لوجدنا ثمة قطّاعاً واسعاً من أصحاب ( الحَوَل الثوري) الذين لا تعنيهم أرواح ثلاثة ملايين مواطن سوري في إدلب، بسبب تسلّط جبهة النصرة ومشتقاتها على تلك المنطقة، فنجدهم صامتين حيال ما يجري، وربما لسان حالهم يخفي ما هو أشدّ شناعة من الصمت، بينما نجدهم يملؤون الكون صراخاً وضجيجاً لتعرّض أحد أشياعهم المقيمين في دمشق لحالة اعتقال أو احتجاز مؤقت، أو منع من السفر، علماً أن اعتقال أي مواطن سوري هو موضع رفض وإدانة لدى كل صاحب ضمير حيّ.
ربما تباينت القوى المتصارعة في سوريا من حيث تباين شعاراتها وخطاباتها، ولكن اشتراكها في جذر أخلاقي واحد يكشف عن فحواها المتشابه على أكثر من صعيد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت