موضوع العملية العسكرية التركية المرتقبة في سورية أكبر مما يُشاع ويتردّد كثيراً في وسائل الإعلام والتصريحات عن مخاطر مشروع “الانفصال الكردي في سورية”، وهو المشروع الذي لا يمتلك مقوّمات جغرافية وسكانية واقتصادية، هذا فضلاً عن عدم وجود الحامل الاجتماعي السياسي له، فالأحزاب الكردية السورية، على اختلاف توجهاتها، لا تطرح مشروع الانفصال، وهي أحزابٌ مطلبية أساساً تدعو إلى رفع الظلم عن الكرد، والاعتراف بحقوقهم القومية المشروعة ضمن إطار وحدة سورية أرضاً وشعباً.
أما حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني، فهو الآخر يعلن، باستمرار، أنه ليس لديه مشروع قومي، وإنما يدعو إلى مشروع “الأمة الديمقراطية”، وذلك تيمناً بحزبه الأم الذي أسّس حزباً سياسياً له ممثلوه في البرلمان التركي، ونعني به حزب “الشعوب الديمقراطي”. ولكن ما يفرّق بين الأحزاب الكردية السورية و”العمّال الكردستاني” بواجهاته السورية المختلفة أن الأخير قد بات، منذ أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، حلقة ضمن المشروع الأسدي الإيراني في المنطقة؛ وما زال يقوم بهذا الدور الوظيفي، على الرغم من تبدّل المهمات وأشكال التنسيق في الداخل السوري، فقد سيطر هذا الحزب على المناطق الكردية السورية، بالتنسيق مع سلطات بشار الأسد، وأعلن عن مشروع الإدارة الذاتية على مراحل 2013 – 2016، ويسوّق نفسه متحالفا مع الأميركان الذين تقاربوا مع هذا الحزب بعدما تخلوا، بصريح العبارة، عن خيار تغيير السلطة في سورية؛ وربما لم يكن هذا الخيار في قائمة أولوياتهم منذ البداية؛ وما يدعم هذا الاحتمال غضّ النظر الأميركي، والغربي عموماً، عن التمدّد الإيراني في سورية لصالح بشار الأسد، وهو التمدّد الذي كان، وما زال، يستخدم المليشيات المذهبية، خصوصا مليشيات حزب الله في قمع ثورة السوريين على السلطة المستبدّة الفاسدة المفسدة تحت شعار “محاربة الإرهاب”.
وفي سياق الإعلان الأميركي الصريح عن عدم وجود نية لدى الإدارة لتغيير السلطة في سورية، كان دخول روسيا إلى سورية خريف عام 2015 الذي لم يكن بعيداً، على الأرجح، عن تفاهمات أميركية روسية إسرائيلية، على أساس أن ذلك سيساهم في ضبط التوازنات الإقليمية بين كل من إسرائيل وإيران وتركيا في الساحة السورية، وذلك مقابل الإبقاء على بشار الأسد مع إجراء رتوش تزيينية على سلطته تمهيداً لإعادة تعويمها وتسويقها. ولم تكن دولٌ عربية عدة بعيدة عن تلك التفاهمات أو الاستخلاصات.
ومع تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتدهور العلاقات بين روسيا والغرب نتيجة هذه الحرب المستمرّة، والعقوبات الغربية الصارمة على روسيا بسببها؛ هذا إلى جانب الدعم الغربي السّخي لأوكرانيا، والتحولات البنيوية العميقة في سياسات الدول الغربية وتوجهاتها وحساباتها الاستراتيجية، لا سيما من جهة تعزيز القدرات العسكرية، والبحث الجادّ عن بدائل مقنعة مضمونة لوارداتها من الطاقة الروسية؛ كل هذه المتغيرات، وربما غيرها، دفعت روسيا إلى سحب جزء من قواتها من سورية، بل استعانت بقواتٍ تابعةٍ لسلطة بشار الأسد، وحتى بمرتزقةٍ من العاملين أو المرتبطين بالشبكات التابعة للسلطة المعنية، الأمر الذي أعطى فرصة جديدة للمتربّص الإيراني ليعزّز وجوده، ويزيد من درجة تغلغله في الدولة والمجتمع السوريين. وعلى الأرجح، كان هذا الأمر من بين المواضيع التي نوقشت، واتّخذت القرارات بشأنها في أثناء زيارة بشار الأسد الأخيرة إلى طهران، حيث التقى مع ولي الفقيه ورئيس الجمهورية.
وليس سرّاً أن هذا التغلغل يثير الهواجس الكبرى لدى تركيا، على الرغم من ضخامة المصالح الاقتصادية المتبادلة بينها وبين إيران. وعلى الرغم من اشتراكهما في مسار أستانا الذي كانت نتائجه العامة لصالح الروس والإيرانيين وسلطة بشار الأسد مقابل الدخول التركي إلى مناطق سورية شمالية عديدة في غربي الفرات، وذلك لقطع الطريق أمام احتمالات الاستغلال الإيراني للنزعات المذهبية في الداخل التركي، هذا الاستغلال الذي بات محوراً تتمحور حوله سياسات إيران التوسّعية، نشاهد مظاهره، كما نتلمّس نتائجه، في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن.
وللتغطية على هذا التنافس القديم الجديد بين كل من إيران وتركيا، يبدو أن شعار مواجهة خطر الانفصال الكردي، غير الممكن أصلاً كما سلف القول، هو الأقل كلفةً في هذا المجال على المستوى الإقليمي، والأكثر تجييشاً على المستوى الداخلي، فتركيا تعلم جيداً أن قيادة حزب العمال الكردستاني المتمركزة في قنديل هي التي تتحكّم في الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهي جزء من المشروع الإيراني في المنطقة، وأن الحزب المعني هنا يؤدّي، عبر أذرعه المختلفة في كردستان العراق، المهام المطلوبة منه إيرانيا، وذلك في سياق الاستراتيجية الإيرانية المعتمدة في العراق، والتي ترمي إلى عرقلة أي تقارب كردي كردي، أو أي تقارب عراقي عراقي يكون لصالح تعزيز السيادة العراقية، وهي السيادة التي تتعارض بالمطلق مع واقع الهيمنة الإيرانية حاليا على المفاصل الحيوية الهامة في الدولة والمجتمع العراقيين.
ولعل ما تقدّم يفسّر الموقف الإيراني الرافض للعملية التركية المرتقبة في سورية؛ هذا في حين أن الروس يحاولون اتخاذ موقفٍ وسط شرط الحصول على الثمن في الملف الأوكراني، وعلى أمل توسيع الثغرة في علاقة تركيا مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لا سيما بعد التحفظات والشروط التي أعلن المسؤولون الأتراك عنها بخصوص انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف.
أما الموقف الأميركي من العملية المقصودة فسيتحدّد في نهاية المطاف، بغض النظر عما هو معلن حالياً، في ضوء نتائج المباحثات الخاصة بالنووي الإيراني، والجهود المبذولة لتجاوز الانسداد السياسي في العراق، وآفاق الحوارات السعودية الإيرانية؛ هذا إلى جانب تفاعلات الحرب الروسية على أوكرانيا بطبيعة الحال. ولكن من المتوقع في هذا المجال، في جميع الأحوال، أن ينكمش الشرخ بين الموقفين الأميركي والتركي من قضايا المنطقة بصورة عامة، ومن الموضوع السوري تحديدا. فالأمر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن تركيا ستكسب في ضوء المتغيرات الحالية، والتوقعات المستقبلية الخاصة بطبيعة المعادلات الدولية التي ستتشكل أو تتبلور، أهمية خاصة بالنسبة إلى “الناتو” على وجه العموم، والولايات المتحدة على وجه التخصيص.
واستناداً إلى ذلك، ليس من المستبعد أن توافق الولايات المتحدة على عملية تركية محدودة في غربي الفرات، تعزّز الوجود التركي هناك، ولكنها، في الوقت ذاته، لا توحي بحدوث تحوّل نوعي في الموقف الأميركي من موضوع الاعتماد على حزب العمّال الكردستاني، عبر واجهاته السورية في منطقة شرقي الفرات، طالما أن المنطقة ما زالت مهمة للولايات المتحدة لتداخلها مع العراق، وطالما أن العلاقة الأميركية مع الحليفة الأطلسية ما زالت قلقة، نتيجة تفاعلات المعطيات الجيوسياسية مع المتغيرات الداخلية التركية؛ هذا مع الإدراك الأميركي المسبق لطبيعة العلاقات بين حزب (وسلطة) بشار الأسد والحزب نفسه (وروسيا)، فمن الواضح أن الاستخدام الأميركي لهذا الحزب لا يتجاوز، حتى الآن على الأقل، المهام الوظيفية الميدانية. ومن الواضح أيضاً أن هذا الاستخدام الأميركي لا يتعارض مع التوجهات العامة للمحور الذي لم يغادره هذا الحزب أصلاً منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي. والدول الكبرى عادة، والولايات المتحدة على وجه التحديد، لها سجلات حافلة في ميدان العلاقات البراغماتية مع القوى الميدانية، بهدف تنفيذ أهداف محددة من دون أن تلزم نفسها بالتزاماتٍ استراتيجية بعيدة المدى، وهي تُقْدِمُ عادة على تغيير سياساتها وتعيد النظر في مواقفها من دون أي حرج، والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
السؤال الذي يهم السوريين قبل كل شيء: هل ستساهم العملية التركية في تقريب الحل، أم أنها سترسخ واقع مناطق النفوذ، وتؤدّي إلى تباعد المسافات بين المكونات السورية، خصوصا بين السنة والعلويين، وبين العرب والكرد، لتصبح الأرضية مهيأة لتقسيمٍ غير معلن، يتوافق مع حساباتٍ أصحاب المشاريع العابرة للحدود، ومصالح تجار الحروب؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت