لا يجدي الكلام عن إنقاذ النظام في سوريا أو إعادة تأهيله. سوريا التي عرفناها انتهت. عادت إلى مقعدها في جامعة الدول العربيّة أم لم تعد. انتهت سوريا على مراحل بدءا بالوحدة مع مصر بين 1958 و1961، وقبلها وبعدها في ظلّ الانقلابات العسكريّة المتتالية… وصولا إلى خلافة بشّار الأسد لوالده في السنة 2000.
لا بدّ من التوقّف، في طبيعة الحال، عند محطة محوريّة. تتمثّل هذه المحطّة في تحوّل البعث غطاء لنظام الطائفة، في الثالث والعشرين من شباط – فبراير 1966، ثمّ وضع إيران يدها كلّيا على البلد وعلى القرار السوري بعد 2011.
استغلت إيران الثورة الشعبية التي اندلعت قبل أحد عشر عاما كي تباشر عملية تغيير ديموغرافي في العمق. ما زالت هذه العمليّة التي تستهدف أهل السنّة والمسيحيين والدروز مستمرّة إلى اليوم. مرّ وضع اليد الإيرانيّة، على جزء من سوريا في مراحل عدّة. الفارق بين حافظ الأسد وبشّار الأسد أن الأخير وضع كلّ بيضه في السلّة الإيرانيّة. لم يدرك حتّى خطورة تغطية عملية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع من شباط – فبراير 2005، وهي عملية أدت إلى خروجه من لبنان عسكريا وأمنيا تمهيدا لسيطرة “الجمهوريّة الإسلاميّة” على القرار السوري في دمشق نفسها. استطاعت إيران ذلك بعدما ملأ “حزب الله”، بواسطة سلاحه المذهبي، الفراغ الذي تركه الانسحاب السوري في لبنان.
مثل هذا النظام السوري غير قابل للتأهيل، ليس لأنّه نظام أقلّوي قائم على سطوة الأجهزة الأمنية، إضافة إلى أنّه نظام قضى على النسيج الاجتماعي للبلد فحسب، بل لأنّه فشل اقتصاديا قبل أيّ شيء آخر. عكس الفشل الاقتصادي فشلا سياسيا يكبر حجمه في السنة 2022 مع تغيير اللاعبين الداخليين وحلول المجموعة المحيطة بزوجة بشّار الأسد (أسماء الأخرس) مكان تلك التي كانت محيطة برامي مخاوف ابن خال رئيس النظام السوري. بقي رامي يتحكّم، طوال عشرين عاما وأكثر، بمفاصل الاقتصاد السوري. من السوق الحرّة في المطار وغير المطار إلى الاتصالات، مرورا بأيّ قطاعات أخرى يمكن أن تكون مصدر دخل مالي لشركاته وشركائه. إضافة إلى ذلك، كان رامي الذي ورث والده محمد مخلوف (ابن خالة حافظ الأسد وشقيق زوجته أنيسة) يهتمّ بأمور الطائفة العلويّة وضبطها وفي بقاء الأكثرية فيها موالية لبشّار…
تكمن خطورة النظام السوري، الذي تأسّس عمليا في العام 1963 إثر انقلاب عسكري على الحكم المدني الذي سمّي “عهد الانفصال”، في أنّه قضى على الاقتصاد السوري وكلّ ما له علاقة بالتجارة والخدمات والزراعة وموقع سوريا في المنطقة. الأهمّ من ذلك كلّه أنّه قضى على مؤسسات الدولة السوريّة، خصوصا سلطة القضاء التي صارت سلطة تتحكّم بها الأجهزة والدوائر العليا. عندما لا يكون هناك قضاء، لا يعود هناك من يريد الاستثمار في سوريا. هل من يتذكّر ما حصل مع مستثمرين عرب وأجانب من بينهم المصري نجيب ساويرس الذي شارك رامي في قيام إحدى شركات الاتصال السوريّة.
جرى تهجير الطبقة المتوسطة… أو ما فوق المتوسطة التي كانت عماد المجتمع السوري ونسيجه الاجتماعي. كانت لدى تلك الطبقة القدرة على الإنتاج وبناء نظام مرتبط بالسوق العالميّة. كانت سوريا تمتلك طاقات في كلّ المجالات. من الصناعة إلى البنوك والشركات القادرة على تنفيذ مشاريع كبيرة. منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وبعد التأميمات التي نفّذت في سوريا أيّام الوحدة وانتقال التجربة الناصريّة الفاشلة إليها، بدأت هجرة النخبة السوريّة. هذه الهجرة مستمرّة إلى اليوم. كان معظم الهجرة إلى لبنان ودول الخليج. استفاد لبنان إلى حدّ كبير من الكفاءات السوريّة. استفاد من هذه الكفاءات في مجالات عدّة، في الصناعة والتجارة والبناء والبنوك. كان السوريون وراء بناء أحياء عدة في بيروت مثل بدارو وفردان. هل يعلم اللبنانيون أن سوريين، تركوا بلدهم، وراء قيام بنايات “جفينور” في رأس بيروت؟
ما تشهده سوريا التي تعاني اليوم من أزمة اقتصاديّة، لا سابق لها في تاريخها، نتيجة مباشرة لسنوات طويلة من حلول سياسة الابتزاز مكان سياسة الانفتاح. قامت سياسة الدولة التي تتحكّم بها الطائفة والأجهزة الأمنيّة، مكان دولة العدالة والقانون. توجد مجموعة من الأسئلة لا أجوبة عنها صبّت كلّها في جعل الجهات العليا المسيطرة على الاقتصاد السوري هذه الأيّام لا تعرف كيف الخروج من المأزق. هذه الجهات العليا تتحكّم بكلّ القطاعات الاقتصاديّة، بما في ذلك الاتصالات والوكالات العالميّة، من سيارات إلى أجهزة إلكترونيّة الخ… لكن هل يوجد سوري، باستثناء قلّة قليلة، يستطيع تغيير جهاز التلفزيون لديه أو استبدال سيارته في بلد لم تعد فيه كهرباء؟
لا حدود للانهيار اللبناني. لكن لا حدود أيضا للانهيار السوري. إذا كان لبنان يعاني من الاحتلال الإيراني، فإنّ سوريا تعاني من خمسة احتلالات في الوقت ذاته. يعود ما بلغته سوريا إلى خروجها من دائرة الدولة التي تسعى لخدمة شعبها… إلى دولة انضمت إلى المتاجرين بقضيّة فلسطين. هذه التجارة بفلسطين التي أدّت إلى سقوط الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، كانت بداية لمسلسل الكوارث الذي أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه اليوم. بات النظام السوري في انتظار وعود مصدرها طهران التي تعد نفسها بالتوصل إلى صفقة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” والإدارة الأميركيّة تؤدّي إلى رفع العقوبات الأميركيّة عن إيران.
حتّى لو تدفقت الدولارات التي مصدرها إيران مجدّدا على النظام السوري، ستبقى أزمة النظام تراوح نفسها، إنّها أزمة بلد غاب فيه المنطق منذ سنوات طويلة، بلد لم يكن فيه من يسأل ما الفائدة من شراء السلاح من الاتحاد السوفياتي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي ولماذا لم يستخدم هذا السلاح في تحرير شبر من الجولان يوما، بل استخدم في قمع السوريين واللبنانيين والفلسطينيين… وابتزاز الأردن بكلّ الوسائل الممكنة، بما في ذلك مياه نهر اليرموك وتهريب المخدرات، في كلّ الأيام!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت