في مشهد يعيد إلى الأذهان الاحتجاجات السلمية للمدن السورية عام 2011، تتواصل الاحتجاجات ضد النظام في محافظة السويداء للشهر الخامس على التوالي، رافعة شعارات ومطالب سياسية مؤكدة بينها تطبيق القرار الدولي 2254.
لم تكن المرة الأولى التي تشهد فيها السويداء احتجاجات شعبية، إذ يمكن تقسيم احتجاجات السويداء إلى أربع مراحل: تميزت الأولى الممتدة من عام 2011 إلى عام 2014، بنخبويتها ومطالبها السياسية المعارضة للنظام، فاقتصرت المشاركة على النخب السياسية المعارضة للنظام، وسط غياب التفاعل الشعبي الواسع.
تلتها فترة من الركود الاحتجاجي السلمي بين عامي 2014 و2020، إذ شهدت هذه المرحلة الثانية، تنامي ظاهرة الحركات المسلحة التي تنوعت أهدافها ومطالبها وتوجهاتها، وبرزت خلالها قوات شيخ الكرامة بقيادة ليث البلعوس، التي انشقت عن حركة رجال الكرامة بعد مقتل الشيخ وحيد البلعوس، حيث تميزت قوات شيخ الكرامة بمواقفها المعارضة للنظام.
تتسم المرحلة الثالثة بين عامي 2020 و2022 بمشاركة شبابية كثيفة وبمحركات ومطالب أكثر اتساعاً، وتنوع أدواتها بين الاحتجاجات السلمية والعسكرية، فإلى جانب المظاهرات السلمية شاركت الفصائل المحلية المسلحة بتوجيه ضربات للعصابات والمجموعات المسلحة المقربة من النظام، وأمام تردي الأوضاع المعيشة توجت المرحلة الثالثة من حراك السويداء باقتحام المحتجين السلميين مقر محافظة السويداء وإحراق صور بشار الأسد.
في حين تتميز المرحلة الرابعة وهي الحالية، والتي انطلقت شرارتها في آب 2023 بزخمها الكمي والنوعي، حيث ساهم موقف القيادة الروحية للموحدين الدروز المعبر عنه من قبل شيخي العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي بتوفير مظلة رمزية وروحية للاحتجاجات، بالمقابل لا يزال موقف يوسف جربوع شيخ العقل الثالث في المحافظة مخالفاً للحراك.
وعلى الرغم من رفع شعارات ومطالب سياسية، شبيهة بمطالب وشعارات الثائرين ضد النظام من المدن الأخرى عام 2011، لم يبد النظام ردة فعل عنيفة، مما يطرح تساؤلات حول أسباب عدم المبالاة الظاهرية وتجنب القمع شديد الإفراط، وكيفية تأثير الخصوصية الطائفية للمحافظة في مستوى وطبيعة القمع الذي قد يمارسه النظام ضد أبناء المحافظة.
بشكل عام، يهدف القمع الحكومي للاحتجاجات السلمية إلى الحفاظ على الهيمنة وفرض السيطرة وردع الجماعات المعارضة، والسيطرة على سردية الأحداث، وفي هذا الإطار تبرز نظرية القمع الحكومي الموجه ديمغرافياً بوصفها إحدى استراتيجيات القمع التي يمكن تطبيقها في دول الهويات المتعددة التي تشهد احتجاجات سلمية أو ثورات.
يقوم منطق القمع الموجه ديمغرافياً على مبدأ السعي إلى تفتيت المعارضة ومنع تشكيل جبهة احتجاجية موحدة ضده، وتستند في سبيل تحقيق ذلك إلى توجيه الإجراءات القمعية بناءً على معايير ديمغرافية معينة، مثل العرق، الدين، الجنس، الفئة الاجتماعية، أو المنطقة الجغرافية.
تهدف هذه الاستراتيجية إلى إحداث تأثير متفاوت على مجموعات معينة داخل المجتمع، الهدف الأساسي لهذا النوع من القمع هو غالبًا إضعاف أو تقويض التضامن بين المجموعات المختلفة والحد من قدرتهم على التنظيم والتحالف ضد السلطة الحاكمة، حيث يؤدي تفاوت درجات القمع إلى تفاوت وتنوع استجابة المحتجين ومستوى مطالبهم، مما يخلق مطالب متنوعة ومتفاوتة بشكل يجعل استجابة الحكومة القمعية لأدناها درجة أمر حاسماً في تفتيت الاحتجاجات، فضلاً عن تفتيت النسيج المجتمعي لمجتمع المعارضة.
كما يعد القمع الموجه ديمغرافياً وسيلة فعالة للأنظمة التي تسعى للحفاظ على السيطرة وتقويض النزاع الداخلي، إذ يمكن أن تثني المجموعات المستهدفة عن المشاركة في الاحتجاج أو الأعمال القتالية، وفي الوقت نفسه تقوض التضامن والتحالف بين المجموعات المختلفة.
عندما يعمد النظام السياسي إلى تنويع القمع وتحديده بشكل مسبق أي تخفيض درجات العنف تجاه بعض المناطق والطوائف مقابل تشديده في مناطق أخرى، عندها يطالب سكان المنطقة الأقل قمعاً بمطالب سياسية أقل تأثيراً، وهذه ما سيؤدي إلى بداية مرحلة تفتيت المعارضة.
في ظل القمع الموجه ديمغرافياً غالبًا ما يتعرض الأشخاص المنتمون إلى مجموعات عرقية أو دينية محددة أو غيرها من المجموعات الخارجية، لقمع أشد قسوة من غيرهم، مما يعرض أفراد هذه الجماعة للعنف المفرط بغض النظر عن درجة ولائهم الفردي نحو النظام السياسي.
قد يكون القمع على أساس ديموغرافي، استراتيجية مثالية على وجه التحديد عندما يكون للقمع القدرة على حشد المعارضة الدفاعية، وعندما يكون لدى بعض المجموعات المجتمعية بالفعل تفضيلات جذرية مناهضة للنظام.
بالمقابل وفي ظل هذه الظروف، فإن القمع المحايد ديموغرافياً من شأنه أن يؤدي إلى معارضة أقل تطرفاً وأوسع نطاقاً وأفضل تنسيقاً.
تشمل الأساليب المتعلقة بالقمع الموجه ديمغرافياً جملة متنوعة من الإجراءات القمعية، والتي تختلف باختلاف الجماعة المعرضة للقمع، وتتراوح هذه الأساليب بين التجسس والاستهداف الثقافي والتمييز في الخدمات، والإرهاب النفسي وصولاً إلى الاعتقال الجماعي والحصار، والعنف الجسدي المباشر والتعذيب، والتهجير القسري، والمذابح الجماعة، والإبادة.
فعندما يفرض النظام السياسي إجراءات قمعية شديدة مثل الإبادة والتهجير القسري والحصار على فئة أو جماعة معينة، فأنه في الغالب يفرض قمعاً أقل حدة على الجماعات الأخرى، وقد تتضمن هذه الإجراءات التجسس والتمييز في الخدمات والإرهاب النفسي وتشجيع التنافس الداخلي بين أبناء الجماعة الواحدة، وبذلك يشعر أبناء الجماعة التي تعرضت لقمع أقل من الجماعات الأخرى بتميزها وتفردها مما يجعل مطالبها السياسة أقل حدة وقد تقتصر المطالب على توفير بعض الخدمات.
عمد نظام الأسد منذ انطلاقة الاحتجاجات عام 2011 إلى تطبيق استراتيجية القمع الموجه ديمغرافياً على أساس الهويات المتعددة، بهدف منع اتحاد الجماعات ذات الهويات المتنوعة، من خلال تقسيم المجتمع إلى جماعات متعددة على أساس هويات دينية ومذهبية وقومية وعرقية ومناطقية، وتطبيق إجراءات قمعية متنوعة ومختلفة.
في هذا السياق يمكن ملاحظة التدرج والتنوع في القمع، إذ تعرضت مدن وأرياف حمص درعا ودمشق وحلب وإدلب ودير الزور لإجراءات قمعية شديدة شملت الحصار والاعتقال الجماعي والتعذيب والتهجير القسري، فضلاً عن ارتكاب المجازر في مناطق التداخل الطائفي بهدف زيادة درجة التمايز الطائفي، على غرار تعرض أحياء وبلدات في حمص وريفها لمجازر جماعة استهدف مدنيين بناء على انتمائهم الطائفي.
بالمقابل نالت محافظة السويداء نصيباً مخففاً من القمع على الرغم من خروج احتجاجات على نطاق نخبوي في المحافظة منتصف عام 2011.
وقد استطاع النظام تحييد المحافظة بشكل جزئي ومنع تشكيل احتجاجات واسعة النطاق أسوة ببقية المدن المنتفضة، إذ اقتصر القمع في السويداء على الاعتقال الفردي وتشجيع التنافس الداخلي بين أبناء المحافظة، والتحريض الطائفي المتبادل بين مكونات المحافظة، وتشكيل الميليشيات الموالية والحرمان من الخدمات.
أثر القمع الموجه ديمغرافياً على مواقف المحتجين على المستوى المحلي في محافظة السويداء، إذ انتهجت المحافظة خطاً مستقلاً في نوع احتجاجها منذ عام 2011، واقتصرت المطالب على توفير الخدمات وحماية أبناء المحافظة بشكل خاص، وتجنيبهم الالتحاق بقوات النظام، مقابل تراجع أصوات المطالبين بإسقاط النظام من أبناء المحافظة.
يفسر القمع الموجه ديمغرافياً أسباب تعاطي النظام مع احتجاجات المحافظة الأخيرة وعدم توجهه نحو استخدام أشد أنواع القمع من الحصار والاعتقال الجماعي والمجازر الجماعية، مقابل الاقتصار على الاعتقال الفردي والتضييق الاقتصادي والحرمان من الخدمات.
يهدف النظام من خلال ذلك إلى توجيه رسائل متعددة، منها التأكيد لأبناء السويداء على تميزهم عن أبناء مدن درعا وحلب وحمص وريف دمشق وإدلب وغيرها، في محاولة منه لمنع تشكيل جبهة شعبية موحدة تضم طوائف متعددة، مقابل زيادة فكر المظلومية لدى المدن المنتفضة سابقاً.
فلا وجود لأي نوع من القمع في فكر المظلومية إلا ما تعرض له أبناء الجماعة أو الطائفة، ويرافق ذلك انتشار ثقافة عدم تقبل الآخر والتشكيك بتوجهاته والتقليل من جدية مطالبه، بل وتحقيرها عمداً أو بدون وعي ووصفها “ثورة الجوع”، على الرغم من رفع شعارات ومطالب مشتركة، أما الرسالة الأخيرة فيوجهها النظام للمجتمع الدولي، تأكيداً على مزاعمه “حماية الأقليات” من “التطرف”.
في الختام لابد من التنبيه لمخاطر القمع الموجه ديمغرافياً على النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية للدولة، فقد تؤدي استراتيجية القمع هذه إلى تعميق الانقسامات الهوياتية الداخلية، وتنامي الشعور بالمظلومية والاضطهاد، وإثارة الريبة والشك بين أبناء المجتمع.
كما تؤدي إلى تراجع الشعور بالوحدة الوطنية وتقويض الثقة بالمؤسسات الحكومية والدولة ذاتها، وتزايد مطالب الانفصال والاستقلال والحكم الذاتي، وتقويض التكامل الاجتماعي بانتشار مشاعر العزلة والانفصال، وانتشار التطرف في الفكر والسلوك، وإحداث تغييرات ديمغرافية وتغيير التوازن الاجتماعي نتيجة الهجرة والتهجير القسري. كما يؤدي القمع الموجه ديمغرافياً، إلى تقويض التنوع الثقافي بسبب تهميش ثقافة وتقاليد الجماعة المستهدفة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت