طفت الخلافات الجذرية بين الوفدين السوريين المتفاوضين منذ الجولة الأولى. وفيما يسمّي وفد النظام نفسه “الوفد الوطني”، ويصرّ على مناقشة الـ”لاورقة” الركائز والمبادئ الوطنية، خصوصا مكافحة الإرهاب، واعتبار كل من حمل السلاح بوجه النظام إرهابيا، والمطالبة برفع الحصار الاقتصادي عن سورية، يصرّ وفد المعارضة على أن مهمة اللجنة الدستورية تقتصر على مناقشة المضامين الدستورية، مثل سيادة الدولة، الحريات، والهوية الوطنية. وفي الأثناء، لا تجد اللجنة الدستورية ذلك المخرج المطلوب للعمل والانتقال السلس بين الملفّات العالقة بشأن مستقبل سورية، يضاف إليها أن موقف روسيا من الخلاف يشي بوقوفها خلف تلك “اللاورقة”، عبر طلب وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، عدم تدخل الأمم المتحدة في عمل اللجنة.
وبعد توقف عمل اللجنة الدستورية تسعة أشهر بحجة فيروس كورونا، وعلى الرغم من إصابة أربعة أعضاء منها بالفيروس في الجولة الثالثة من انعقادها في 24 أغسطس/ آب الماضي، إلا أن اللجنة المصغرة أنهت أعمالها، وهو ما فُسّر برغبة الطرفين باستمرار أعمال تلك الجولة؛ ولكل منهما مصالحٌ معاكسة للآخر. وربما حملت تلك الرغبة في الخلفية جدّية أممية ودولية، إلى جانب قسم من المجتمع المدني ووفد المعارضة، بالمضي في جدول أعمال الجولة، على الرغم من عراقيل حاولت روسيا وضعها عبر وفد الحكومة منذ الجلسة الأولى، والإصرار على مناقشة الركائز أولاً، وبعدها الانتقال إلى بحث المضامين الدستورية الأخرى.
ويبدو الصراع الخفي واضحاً بين الجهود الدولية والغربية، وفي مقدّمتها المساعي الأميركية عبر المعارضة السورية، بشأن إتمام أعمال اللجنة الدستورية بالكامل، أملا بالخروج بصيغة دستور جديد قبل موعد الانتخابات الرئاسية المزمعة منتصف العام المقبل. وما بين رغبة روسيا وإيران في المساهمة بالتمديد لبشار الأسد، ومسعى الكتلة الدولية إلى سد الطريق أمامها، تعي كل الأطراف أن عدم إتمام أعمال اللجنة الدستورية سيعني ذريعة مناسبة لشرعنة تلك الانتخابات. علماً أن الانتخابات واحدة من السلال الأربع، إلى جانب الحكم غير الطائفي، والدستور ومكافحة الإرهاب المستمد من قرار مجلس الأمن 2254 الذي يقضي بالانتقال السياسي وإعداد دستور جديد، ثم الذهاب إلى انتخابات عامة.
تشهد اللجنة الدستورية المصغرة حالياً جولتها الرابعة، تماشياً مع القواعد الإجرائية، ومناقشة جدول أعمال الجولة الثالثة بشأن الأسس والمبادئ الوطنية والاقتصادية والمبادئ ذات الصلة بالهوية والسيادة الوطنية وعقد اجتماعي وعودة اللاجئين. ومن المقرر مناقشة المبادئ الأساسية الدستورية في الجولة الخامسة. مع هذا وذاك. لا تقدّم مأمولا في عمل اللجنة، باستثناء الاتفاق على بعض نقاط جداول الأعمال، وهي في أي حال فرصة مقبولة لأعضاء اللجنة لإبداء حسن النيات عملياً بعيداً عن الخطاب التبريري أو التراشق الإعلامي، بغية المضي في العملية السياسية. ووفقاً لصراع الدول الفاعلة والمتحكّمة بالشأن السوري، التوافق الوطني المطلوب لبث روح المواقف المتقاطعة خاضعٌ، بشكل مباشر، لنتائج ذلك الصراع، ما يعني أن عمل اللجنة الدستورية لن يكون المسار المعتمد من دون خطواتٍ فاعلةٍ مؤثرة من تلك الدول المتحكّمة بالملف السوري. خصوصا وأن القرار 2254 مادة صراع دسمة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وفي غياب الخطوات المتبادلة بين الوفدين المتفاوضين والدولتين المتنافستين، يبقى ذلك القرار عصياً على التنفيذ، خصوصا مع جمود أبرز ملفين يرتبطان عميقاً بمصير سورية المستقبل: المعتقلين (والمفقودين)، على الرغم من أن هذا الملف محور اهتمام مبعوث الأمم المتحدة الخاص، ولكن لا تقدّم فيه، مع أن إطلاق سراحهم قضية إنسانية وخطوة حيوية باتجاه بناء الثقة. اللاجئين، القضية التي تشكل العبء الأكبر على دول الجوار ودول اللجوء واللاجئين أنفسهم، وما تحمله قضيتهم من تشبيك وتعقيد وعدم حمل قسم منهم أي ثبوتيات لهم أو للمواليد الجدد، وقضايا الملكية والأراضي والمساكن و.. إلخ، وهو ما يعيق مشاركتهم في صناعة قرار مستقبل سورية. ومع عدم تبيان وضع المعتقلين، وتوفير شروط العودة الآمنة والكريمة والطوعية، فإن كل الخطوات الأخرى لن تتمكّن من توفير ما تتطلبه العملية الدستورية، خصوصا وأن المؤتمر الذي عقد في دمشق لعودة اللاجئين لم يوفر أيَّ بيئة حاضنة أو حلولا مطلوبة بشـأن عودتهم، فضلاً عن غياب الخدمات الأساسية والتعليم وضرورة توفير التأهيل لمرحلة ما بعد الصراع. .. وتحتاج كل الملفات المعقدة مجتمعة حلحلة، ومن شأن توفر الحل أن يؤمّن بيئة مواتية لعودة اللاجئين، وهو الأمر الراسخ في القرار 2254. وعلى الرغم من مضي خمس سنوات على القرار، وعوضاً عن تنفيذ أيًّ من بنوده، تستمر معاناة السوريين داخل بلدهم وخارجه.
وربما تدخل لقاءات المبعوث الأممي الخاص، بيدرسون، مع وزير الخارجية السوري الراحل، وليد المعلم، وإجراؤه اتصالاتٍ مع هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولقاءاته مع مسؤولين كبار في الحكومة التركية، ووزير الخارجية الروسي لافروف، ضمن إيجاد طرق جديدة وإضافية لدفع العملية الدستورية إلى الأمام، خصوصا وأن ما تشهده اللجنة الدستورية من تفاقم الأزمات، وعدم حلحلة أيَّ من السلال الأربع، رُبما يعني عدم كفايتها لا حلا مستداما لسورية، ولا مسارا متكاملا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت