من المرجح أن تكون الليرة السورية بانتظار هزة جديدة، بفعل إجراءات تقييد السحب النقدي والتحويلات بالدولار في العراق، خلال الفترة القادمة. ليتعزز الأثر الذي تركته الإجراءات الأمريكية بهذا الصدد، منذ مطلع العام الجاري.
ومن المعلوم أن إيران هي المستهدف الرئيس من الضغط الأمريكي على الحكومة العراقية، بغية عدم تسريب جانبٍ كبير من احتياطيات العملة الصعبة للبلاد، إلى أروقة الاقتصاد الإيراني. لكن سوريا تليها مباشرةً في قائمة المستهدفين.
ومن المرتقب أن تصعّد واشنطن ضغوطها في الفترة القادمة، إن لم تلتزم السلطات الرسمية في بغداد، بتعهداتها المتعلقة بهذا الملف. وهي ضغوط بدأت منذ مطلع العام الجاري، حينما فرضت واشنطن قيوداً على المعاملات الدولارية التي تجريها البنوك العراقية، قبل أن تمنع عدداً منها، من التعامل بالدولار مطلع الصيف المنصرم، وصولاً إلى امتناعها عن تمويل بغداد بمليار دولار أمريكي من عائدات بيع النفط العراقي المودع لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي، قبل أيام فقط، وذلك بذريعة أن “الدولار الذي بين أيدي العراقيين أصبح تجارة مربحة للميليشيات وايران والفاسدين”. وفي مواجهة هذا الضغط الأمريكي المتصاعد، ومخاطره على القطاع المصرفي وعلى مجمل الاقتصاد العراقي، جاء قرار البنك المركزي في بغداد بحظر السحب النقدي والتحويلات بالدولار. وهو ما يعني المزيد من التضييق على انسياب “الدولار العراقي” إلى دول الجوار المتعطشة له، وبصورة خاصة، في إيران وسوريا.
القرار الأخير سرعان ما انعكس على سيولة الدولار المتاحة في الأسواق المحلية داخل العراق. ورغم محاولة المركزي العراقي طمأنة الشارع بأن حظر السحب النقدي بالدولار سيكون من بداية 2024، وسيسري فقط على التحويلات الدولارية من الخارج، إلا أن واقع الأمور على الأرض كانت مختلفة، إذ بدأت العديد من البنوك العراقية بالتوقف عن منح المودعين أموالهم بالدولار، رغم أنهم يمتلكون حسابات بالدينار العراقي والدولار الأمريكي، واشترطوا تسليمهم إياه بالعملة المحلية وبالسعر الرسمي الذي يقل عن سعر السوق بنحو 20%، في سيناريو يذكّر بالتجربة اللبنانية.
ما سبق، دفع الإعلام الموالي في سوريا إلى دق ناقوس الخطر، إذ نشرت صحيفة “الوطن” المقرّبة من النظام، تقريراً ناقشت فيه التداعيات على حجم الحوالات الخارجية التي ترسلها العمالة السورية في العراق، إلى الداخل السوري. وقدّر أكاديمي في جامعة دمشق حجم الأثر بنسبة 40% من حجم هذه الحوالات. لكن النقاش لم يتطرق، بطبيعة الحال، إلى حجم الخسارة المرتقبة من السيولة الدولارية، غير المشروعة، التي كانت تأتي من العراق إلى سوريا.
وفي السنوات الأخيرة، تحول تهريب “الدولار العراقي” إلى بزنس مربح للغاية، وتشكّلت مافيات ناشطة فيه. إما عبر منصة تنظيم التحويلات المصرفية التي أنشأها العراق، والتي تحولت وفق وصف تقرير لوكالة “رويترز”، إلى “بؤرة للإيصالات المزيفة والمعاملات الاحتيالية التي سربت الدولارات إلى إيران وسوريا الخاضعتين لعقوبات أمريكية”، أو بتهريب “الكاش”، الأكثر شيوعاً، كـ “دولار المسافرين”، الذي يتيح منح كل مسافر 3 آلاف دولار أمريكي، أو كـ تهريب الدولارات عبر المنافذ الحدودية التي تسيطر عليها الميليشيات المدعومة إيرانياً، على الحدود السورية – العراقية.
ذاك “البزنس” سيتعرض للجمٍ غير مسبوق، جراء القيود الجديدة على النشاط الدولاري في العراق، وهو ما سيؤثر بالتأكيد على سعر صرف الليرة السورية. لكن يصعب تقدير حجم هذا الأثر. ويمكن الاسترشاد ببعض الأرقام، لتصوّر ذلك. إذ تقدّر مصادر أكاديمية سورية، حجم أجور العمالة السورية في العراق بنحو 700 مليون دولار أمريكي سنوياً، يتم تحويل جانب مهم منها إلى سوريا. وهذه ستخرج تماماً من قنوات الحوالات الخارجية نظراً لأن القرارات الأخيرة في بغداد باتت تقضي بتسليم العمالة الأجنبية أجورها بالدينار العراقي. ومن زاوية أخرى، يقرّ البنك المركزي العراقي بأن الاستخدام غير المشروع للمبالغ النقدية السنوية التي تحصل عليها بغداد من الاحتياطي الاتحادي الأمريكي، يقدّر بنحو 5 مليارات دولار سنوياً. أما إن انتقلنا إلى مصادر أكاديمية عراقية، فإن تقديراتها لحجم تهريب الدولار من العراق إلى دول الجوار تتراوح ما بين 10 إلى 15 مليار دولار. ويذهب تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية ببريطانيا، في تموز/يوليو الفائت، إلى أن ثلثي مبيعات البنك المركزي العراقي في ما يعرف بـ “نافذة بيع العملة” التي تتراوح عند مستويات 250 مليون دولار يومياً لم تستفد منها السوق العراقية على مدى العقدين الماضيين. أي أكثر من 40 مليار دولار سنوياً. وبطبيعة الحال، فإن إيران هي صاحبة النصيب الأوفر من هذه الأرقام، أياً كان منها، هو الأدق. وتليها سوريا، صاحبة الترتيب الثاني في قائمة الدول المستفيدة والتي تضم أيضاً تركيا والأردن واليمن وحتى بعض الدول الأوروبية.
وللمساعدة على تصوّر حجم الأثر المحتمل لتصعيد هذا الملف، يمكن الإشارة إلى أن الدولار كان يساوي 6700 ليرة سورية، قبيل بدء واشنطن في مسار ضغوطها المتصاعدة على بغداد، بهذا الخصوص، مطلع العام الجاري. فيما الدولار اليوم بنحو 13000 ليرة. أي حوالي الضعف. ونحن هنا لا نقول إن مجمل هذا الانهيار في سعر صرف الليرة السورية يرجع إلى تقلص انسياب “الدولار العراقي”، وحده. لكنه أحد العوامل التي ساهمت في هذا الانهيار. وهو العامل الذي سيزداد تأثيره في الأشهر القليلة القادمة، بصورة قد تكون فارقة للغاية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت