المشرق العربي في مهبّ التغيرات
تؤشّر اتجاهات الأحداث التي تتفاعل بقوة في المشرق العربي إلى ولادة مساراتٍ نعرف بداياتها، لكننا نجهل مساربها وتفرّعاتها ونهاياتها، فكل الديناميكيات التي ولّدتها تحولات السنين الأخيرة وصلت الى حد الانفجار لصناعة الشكل الجديد للمنطقة، بعد اكتمال مراحل التجريب والاختبار وتجهيز البنى التحتية.
وما بين احتلالاتٍ ومناطق نفوذ وصراعات أهلية، طائفية وعرقية، وثورات شعبية وثورات مضادّة، يبدو أن مرحلة تطوي أذيالها وترحل، بعد انتهاء بنوك أهدافها وتحوّل فعاليّاتها إلى مجرد أفعال نمطية صار الفاعلون معها يخشون تأثيرها على مستقبل مشاريعهم، وبالتالي صار لزاما ترشيق خططهم عبر نقلها من تصاميم الخرائط الى التنفيذ الحي.
أبطال هذه المرحلة هم أنفسهم أبطال المرحلة السابقة، إيران والولايات المتحدة، الطرفان اللذان سيطرا على المشهد المشرقي وشكّلاه بمساطر وبيكارات معيّنة، بعد أن ورثت واشنطن وطهران القوى المحلية وسجلتاهم في خانتيهما، وكلاء للمشروع الجيوسياسي لكل منهما، وموظفين يتبعون تعليمات المركز.
تعايش المشروعان في المشرق العربي، كانت الحصص تتناسب مع قدرة كل طرف على هضم ما تحصل عليه وقدرة أدواته على الأرض في إدارة هذه الحصّة، ولكن يبدو أن هذه المرحلة انتهت، فقد شكلت حرب غزّة والديناميكيات الناتجة منها متغيّرا مهمّا سيكون له انعكاسات على خطوط الصراع ومواقع اللاعبين، فقد اكتشفت إيران أن لديها قدرات تشغيلية فاعلة لم تكن مختبرة بعد، فيما لمست إدارة بايدن، التي طالما فضلت التعايش مع مشروع إيران في المنطقة، أن مستقبل النفوذ الأميركي في المنطقة بات على المحك.
بالنسبة لإيران، بات الوجود الأميركي في المشرق يشكل عائقا أمام نفوذٍ لم يعد ينقصه شيء لتحويل العراق وسورية ولبنان الى ولاياتٍ في هيكلية الجمهورية الإسلامية، ففي هذه البلدان يسيطر حلفاء إيران، أو بالأصح، عملاؤها، على السلطة، وبالتالي يتحكّمون في مصائر تلك البلدان، وتشكّل الظروف الإقليمية والدولية فرصة مثالية لإيران لإعلان استتباع هذه الدول، الولايات، نهائيا، إلى المركز في طهران، التي ستتحوّل إلى عاصمة الإقليم، والناطقة باسمه، والمتحكّمة بتفاعلاته وتوجهاته.
يبقى الأردن خارج هذه الخريطة، فشلت كل محاولات إيران الناعمة لجذبه الى مدارها، ما دفعها إلى استخدام الأساليب الخشنة لتسريع ضمّه الى كوكبة البلدان المشرقية الواقعة ضمن تأثيرات المجال الإيراني، مستثمرة الحرب في غزّة لتسريع عملية صناعة حواضن أردنية لها ودعمها بالسلاح والمال، عبر إشراكها في تجارة المخدّرات، وإن ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليها وكشفها، ويشيع حلفاء إيران أن هذه الأسلحة كانت في طريقها الى الضفة الغربية للمساعدة في مواجهة الحرب الإسرائيلية!
بالنسبة لأميركا، لا تستطيع إدارة بايدن تكرار تجربة الانسحاب الأميركي المُذل من أفغانستان، بعيدا عن الأصوات التي تنادي في واشنطن بسحب القوات الأميركية من سورية والعراق، فإن الحسابات الإستراتيجية الأميركية تخالف تماما هذه الرغبات، إذ سيكون من غير المنطقي، في ظل تشكيك أطراف دولية بقدرة واشنطن على إدارة التفاعلات الدولية، أن تنهزم أميركا أمام قوة إقليمية بحجم إيران، فضلا عن أن الوجود الأميركي في العراق وسورية يتعدّى، في دوره ووظيفته، مجرّد مناكفة طهران بقدر ما هو جزء من حسابات واشنطن في الصراع مع الصين وروسيا على النفوذ في المنطقة.
بعد الحرب على غزّة، تغيّرت حسابات الفاعلين في المنطقة، وتغيّرت طرائق تفكيرهم، فالجميع، بطريقة او أخرى، انخرطوا في الحرب الدائرة على أرض فلسطين، اكتشف الجميع أن المعادلات التي جرى إرساؤها سابقا لم تعد مناسبة، فالجميع اختبروا قواهم واكتشفوا نقاط الضعف والقوة لديهم ولدى خصومهم، وثبت من مجريات الحرب أن لكل الأطراف، وفي ظل الاصطفافات والانقسامات الداخلية والخارجية، حواضن مستعدّة لتقديم الدعم للحرب الى حدود بعيدة، ما يغري القيادات بتوسيع رقع الحرب والذهاب بعيدا بها.
ولعل ما يعزّز احتمالية السير في الحرب الى نهاياتٍ غير متوقعة، اكتشاف اللاعبين أن الفوز بمعركة أو ساحة لا يعني الفوز بالحرب، في ظل الترابط الهائل بين القضايا والمشاريع وتداخل الجغرافيا، إذ على مدار العقد الماضي جرى تفكيك وإعادة تركيب المنطقة على كل المستويات، وتداخلت مكوّنات أزماتها وقضاياها بشكلٍ يصعُب تفكيكها، وبالتالي، أي تغيير في ساحة معينة سينعكس حكما على جميع الساحات، ما يستدعي الحسم في كامل البقعة الجغرافية للمشرق العربي إن أراد أيٌّ من أطراف الصراع تحقيق النصر في هذا الصراع.
لم تعد نظرية الفراغ تصلح لتحليل الواقع في المشرق العربي، بعد أن ملأ الفاعلون الخارجيون كامل الفضاء المشرقي، وأخرجوا نهائيا الفاعلين المحليين من سلطة القرار، وبالتالي، لا نستطيع الحديث عن مصالح شعوب المنطقة وتوجّهات النخب السياسية فيها، حيث لا ملامح لشعوب ونخب ولا تأثير لهذه المكوّنات على مجريات الأحداث، ما يجعل الصراع أشدّ قساوة ويحوّل المشرق العربي إلى مجرّد ساحة اختبار لمعادلات القوى وموازينها، ولأن التعايش بين مشاريع اللاعبين الخارجيين صار خطأ لا ينبغي تكرارُه، فلنا توقع أن تدوم الحرب طويلا في المشرق العربي، وانتظار الخرائط الجديدة التي سيفرزها التطاحن الحاصل، والذي يأخذ نمط صراعات وجودية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت