بين دلال القهوة العربية والتحف المصنوعة من النحاس، وعلى بساط عجمي قديم، يجلس أبو راشد في محله الواقع في ساحة “سيريتل” وسط مدينة إدلب التي تهجر إليها من ريف دمشق، جالباً معه مقتنياته التراثية المصنوعة من النحاس، كونها مهنة آبائه وأجداده التي لا يستغني عنها، حسب تعبيره.
يقتني أبو راشد في محله، الذي أطلق عليه اسم “بيت جدي”، مختلف الأواني النحاسية بألوانها الأحمر والأصفر والأبيض، مستعرضاً “باعتزاز” مصبات القهوة والأباريق والصواني والمناقل والسيوف والخناجر والتحف الفنية القديمة، التي يعتمد عليها كمصدر دخل له، إلى جانب نيته الحفاظ على هذا الموروث التاريخي.
وتعتبر صناعة المنتجات النحاسية من الحرف اليدوية التي لها مكانة كبيرة في التراث السوري، ولا تزال حاضرة في وقتنا الراهن، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تهدد وصولها إلى الأجيال القادمة.
موروث تاريخي متنقل
يعيش في الشمال السوري عدد من الحرفيين وصنّاع الأواني النحاسية، نتيجة موجات النزوح التي شهدتها المنطقة منذ سنوات، ما أضاف طابعاً متنوعاً في الأسواق عبر رفدها بالأواني والتحف التراثية.
ولاقت هذه الحرفة رواجاً في المجتمعات العشائرية بسبب اهتمامها بتجهيز المضافات الكبيرة، التي يتوسطها المنقل وأدوات تحضير القهوة العربية (دلال- مهباش- محماس) في أغلب الأوقات.
السيد محمد الكردي، تنقل مع مهنته هذه بين إدلب وحلب ودمشق، ليعود إلى مسقط رأسه في مدينة أرمناز بريف إدلب، بعد تهجيرهم من مدينة حلب، جالباً معه أدوات صنع وتصليح الأواني النحاسية بمختلف أشكالها، ليحافظ على مهنته التي ورثها “أباً عن جد”، حسب وصفه.
يقول السيد محمد لـ “السورية نت” إن هذه المهنة تحمل تنوعاً كبيرة كونها تقوم على صنع الأواني من مادة النحاس، إلى جانب تصليح وتلميع الأواني المستعملة لتعود جديدة.
ويضيف: “ارتبطت بهذه المهنة منذ صغري، ولا زلت متعلقاً بها كونها تذكرني بالحياة الريفية البسيطة، ولأنها ترتبط بقيم العزة والنخوة والشهامة”، مردفاً أن “الجلوس في المجالس العربية وتقديم القهوة بالدلال له معنى خاص يعيدنا لتاريخ الأجداد”.
ضعف الإقبال يهدد المهنة
يقول السيد محمد الكردي إن إقبال الزبائن على شراء الأواني النحاسية يشهد تراجعاً كبيراً، في ظل الأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشها معظم الأهالي في الشمال السوري، على حساب تأمين أولويات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن.
وأضاف أن البيوت السورية باتت تعتمد على الأواني البلاستيكية أو المصنوعة من الألمنيوم والستانلس، لافتاً إلى أن استهلاك الأواني النحاسية يقتصر على “ميسوري الحال” من تجار وأصحاب شركات ومضافات كبيرة، بهدف التزيين فقط.
وحول تفاصيل عمله، يقول السيد محمد إنه بالإضافة إلى تصنيع الأواني النحاسية، يقوم أيضاً بإصلاح وتلميع وتبييض الأواني القديمة، عبر استخدام ملح الليمون وروح الملح وصابونة تنكيل وغيرها، مشيراً إلى أن هذه المواد تعيد للمنتج لمعته وكأنه أصبح جديداً.
وأردف: “مادة النحاس تتأكسد إذا تم استخدامها بكثرة، وبالتالي يقوم المبيض بفركها وتلميعها وطلائها لتصبح جاهزة للاستخدام من جديد، وتتضمّن مرحلة التبييض جلي الأواني بمادة الأسيد ثم يُرش عليها روح الملح ومادة الرمل، ويتم فركها بالقطن مع تعريضها للحرارة العالية مباشرة”.
وتخوف السيد محمد من انقراض هذه المهنة، نتيجة ضعف الإقبال عليها، وهجر الحرفيين لها واعتمادهم على مصدر دخل مختلف يؤمن لهم قوت يومهم.
يُشار إلى أن معظم المحافظات السورية تضم أسواقاً للنّحّاسين، أشهرها في مدينة حماة، التي تضم سوقاً عريقاً للنحاسيات، ولا يزال مقصداً لعدد من السوريين بسبب تنوع الأدوات فيه وصنعها بحرفية عالية.