نشرت صحيفة «تركيا» التركية المقربة من الحكومة، الأسبوع الماضي، تقريراً إخبارياً مفصلاً حول مفاوضات تجري بعيداً عن الأضواء بين الحكومة التركية والنظام السوري. الصحيفة التي أسندت تقريرها إلى «مصادر أمنية» مغفلة، وضمّنته رأي الرئيس السابق للحكومة السورية المؤقتة أحمد طعمة، استرسلت في تفاصيل التوافقات بين الطرفين بشأن عدد من القضايا الشائكة، هادفةً من وراء ذلك إلى خلق انطباع لدى القارئ بأن تطبيع أنقرة مع نظام الأسد بات وشيكاً وبشروط تمنح تركيا مكاسب كبيرة جداً، إضافة إلى «جوائز ترضية» للمعارضة السورية لا يمكن الاستهانة بأهميتها.
قبل الخوض في التفاصيل المدهشة للتقرير يجب التأكيد على أنه فقد قيمته الإعلامية بمجرد إسناده إلى مصادر مغفلة. أضف إلى ذلك أن السلطات الأردنية نفت حدوث أي مفاوضات تركية – أسدية في مدينة العقبة على ما زعم التقرير، ولم يؤكد أي مصدر رسمي تركي حدوث اللقاء. غير أن أنقرة لم تنف حدوثه أيضاً، ولا علقت بأي كلمة على مضمون التقرير. في هذه النقطة بالذات تكمن أهمية التقرير الصحافي، بما يسمح بالقول إن الحكومة التركية ترغب بجس نبض النظام بشأن ما يمكن التوافق عليه، من خلال التزام الصمت بشأن مزاعم خطيرة طرحتها الصحيفة المقربة منها والتي تقوم سياستها التحريرية على الدفاع عن كل سياسات السلطة وإجراءاتها.
زعمت الصحيفة التركية في تقريرها أن «الطرفين اتفقا على القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني» في حين «طالبت أنقرة بإنهاء وجود حزب الاتحاد الديمقراطي في شرقي الفرات» وفق ما جاء في التقرير. الملفت هنا هو الفارق بين الصيغتين مما يشير إلى فبركة واضحة. في الأولى يتم التوافق المزعوم على شن عمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني، وهو غير موجود، رسمياً على الأقل، على الأراضي السورية، في حين تتحدث الصيغة الثانية عن الفرع السوري للحزب الموجود فعلاً على هذه الأراضي، لكن «إنهاءه» هو مطلب تركي لم يتحول إلى اتفاق الطرفين حسبما نفهم من النص. من غير أن نتحدث عن عدم امتلاك النظام لأي موارد حربية لمواجهة الحزب الكردستاني الموجود في جبال قنديل وليس على الأراضي السورية!
غير أن الزعم الثاني أكثر غرابة بعد، وهو يتعلق بمطالب الجانب التركي أكثر من كونه توافقاً بين الطرفين. يزعم التقرير أن «الأولوية بالنسبة لتركيا» هي مدينة حلب، على ما ينقل عن مصدر أمني مغفل الاسم على صلة مباشرة بالمفاوضات الجارية على مستوى «وزارتي الدفاع والخارجية» بعدما اقتصرت اللقاءات السابقة بينهما على الجهات الاستخبارية والعسكرية. الطرف التركي طالب بتنكب تركيا مسؤولية إعادة إعمار المدينة المدمرة ومدينتها الصناعية، بتمويل من السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، ونشر قوات دولية محايدة، بينها قوات تركية، في المدينة لحماية إعادة الإعمار هذه.
ربما يكون ذكر الجهات التي من المفترض أن تمول هذه العملية الكبيرة من باب إضفاء المصداقية على التقرير. فهذا يسمح بإدراج هذه الخطة الطموحة ضمن إطار خطة «خطوة مقابل خطوة» في الطريق إلى حل الصراع في سوريا وعليها، تلك الخطة التي بادر بها الأردن بعد لقاء الملك عبد الله الثاني مع الرئيس الأمريكي في الخريف الماضي.
وتسمح زيارة ولي عهد الإمارات إلى أنقرة، بعد سنوات من العداء الصريح، بافتراضات من هذا النوع، وكذا الزيارة المرتقبة للرئيس التركي إلى السعودية في شهر شباط القادم. صحيح أن خطوات التطبيع هذه بين تركيا وكل من الإمارات والسعودية (ومصر) لا تقتصر على الموضوع السوري، ولكن لا بد أنه يشكل أحد أهم المشكلات التي تهم هذه العواصم. وعموماً يمكن القول إن هذا الحراك الدبلوماسي يهدف إلى تفكيك عقد الصراعات القائمة عن طريق الحوار بحثاً عن توافقات وحلول وسط، سواء تعلق الأمر بسوريا أو ليبيا أو غيرها من الموضوعات، وذلك في غياب الراعي أو الوسيط الأمريكي الذي اعتاد على ترتيب شؤون الإقليم من خلال نفوذه.
في هذا الإطار المفترض، تقدم تركيا ودول الخليج المذكورة حوافز سخية للنظام تتمثل بإعادة إحياء الدور الصناعي والاقتصادي لمدينة حلب. إضافة إلى فتح الطريقين الدوليين M4 وm5 وفتح معبر كسب الحدودي أمام تنقل الأفراد والبضائع. فما الذي سيقدمه النظام مقابل ذلك؟
يتحدث التقرير عن أن النظام سيطلق سراح 6000 معتقل سياسي «كخطوة أولى» من غير أن يوضح ما إذا كان هذا طُلب من النظام أم أنه قد تعهد به. نحن نعرف أن موضوع المعتقلين والمفقودين هو مما لا يتفاوض عليه النظام إلا مقابل مكاسب كبيرة جداً، وحتى في هذه الحالة سيلجأ إلى التلاعب لإفراغ الموضوع من مضمونه بقدر ما يستطيع. في حين أن الحافز الكبير المذكور في التقرير بشأن حلب لن يعتبر حافزاً من وجهة نظره ما دام الأمر يشترط إخراج المدينة عن سيطرته الأمنية المباشرة مقابل إعادة إعمارها، فما الذي يفيد النظام في ذلك إذا كان سيتم على يد تركيا وتحت وصاية «قوات متعددة الجنسيات بينها تركية» وأحد أهداف العملية هو إعادة ملايين اللاجئين من تركيا إلى حلب ومناطق أخرى كما يعلق أحمد طعمة في ثنايا تقرير الصحيفة التركية؟ ويبدو طعمة هنا مهتماً بتخليص تركيا من عبء اللاجئين السوريين أكثر من اهتمامه بإنهاء الحرب في سوريا، ناهيكم عن تغيير النظام. وبهذا الشأن الأخير يتنبأ طعمة بأن النظام لم يبق أمامه أكثر من عامين!
يتحدث التقرير أيضاً عن تفعيل اتفاق أضنة بما يسمح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية حتى عمق 35 كيلو متراً، من غير أي ذكر لانسحاب القوات التركية قبل ذلك، لا كتعهد تركي في المفاوضات، ولا كمطلب من النظام. يتقاطع هذا مع عودة اتفاق أضنة إلى طاولة المباحثات في اجتماع آستانة الثلاثي الأخير، بطلب من روسيا.
إذا أردنا التلخيص: تقرير الصحيفة التركية بشأن المفاوضات بين تركيا والنظام في مدينة العقبة الأردنية، ضعيف المصداقية بسبب إسناد معلوماته إلى مصادر مغفلة. بالمقابل صمت الحكومة التركية بشأن التقرير، قد يعني محاولة لجس النبض من خلال طرح مقترحات ملموسة يمكن وضعها في إطار خطة «خطوة مقابل خطوة». وفي جميع الأحوال تبدو الجهات صاحبة المبادرات تجاه النظام وكأنها تجهل طبيعته التي لا يناسبها السلام ولا السياسة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت