لا نستطيع تسميتها بالمفارقة؛ أن تتكثف الجهود لإعادة بشار إلى الجامعة العربية، بينما تصعّد برلين وباريس وواشنطن من المطالبة بمحاسبته على استخدام السلاح الكيماوي. وكان تقرير لمحققين دوليين عينتهم منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، أُعلن عنه الاثنين الفائت، قد حمّل قوات الأسد مسؤولية الهجوم بغاز الكلور على مدينة سراقب يوم الرابع من شباط2018، بعدما حمّل فريق الخبراء العام الماضي تلك القوات المسؤولية عن ثلاث هجمات بالسلاح الكيماوي، حدثت جميعها بعد صفقة الكيماوي التي يُفترض أن يكون قد تخلص بموجبها من مخزونه من المواد السامة المصنَّعة بقصد القتل.
هي ليست مفارقة أن يحثّ قبل يومين أعضاء في الكونغرس إدارة بايدن على اعتماد استراتيجية ضغط قوية في سوريا، وأن يقول جو ويلسون كبير الجمهوريين في لجنة الشرق الأوسط أن نظام الأسد غير شرعي ولا حل في سوريا طالما بقي في منصبه. في حين كان وزير الخارجية المصري، يومَ صدور تقرير الكيماوي، قد صرّح “بضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية والحاضنة العربية”، معبّراً عن أمله “بعودة سوريا إلى ما كانت عليه من استقرار، كي يستمتع الشعب السوري بممارسة الحياة السياسية”!
هناك سلطات عربية تصرّح بدعمها عودة بشار إلى الجامعة العربية، وسلطات أخرى ليست أقل تلهفاً تعمل على الهدف ذاته من وراء تلك التي في الواجهة. جدير بالذكر أن الدول العربية التي كانت منخرطة في الشأن السوري قد انسحبت منذ خريف2015، أي منذ التدخل العسكري الروسي، والغالبية منها تنسّق الآن مع موسكو في موضوع إعادة بشار إلى الجامعة. ذلك يدعم فرضية الدعم غير المعلن الذي ناله التدخل الروسي من هذه الدول، ولو بذريعة عدم ترك بشار للوصاية الإيرانية كي تنفرد به.
موضوع التحالف مع طهران يطلّ ليكون ذريعة لإعادته إلى الجامعة العربية، وليصبح الوجود الإيراني الكثيف نتيجة الفراغ الذي خلّفه الغياب العربي فحسب. ثمة ما لا يُقال، ومفاده أن بشار الأسد قابل للشراء والابتعاد عن طهران، فيما لو دفعت دول الخليج سعراً مناسباً. ومن دون تنزيهه عن تلك القابلية، تتجاهل الفرضية المذكورة عمق الوجود الإيراني في مفاصل سلطة الأسد العسكرية والمخابراتية، فضلاً عن عشرات الميليشيات الإيرانية، ما يدحض الصورة عن مقايضة مبسّطة يستطيع من خلالها بشار إبعاد طهران لقاء ثمن يرضيه. مما يتناساه أيضاً أصحاب هذه الذريعة أن الوجود الإيراني في سوريا غير مقترن بالثورة، علاقة التحالف بين الطرفين تغيرت منذ موت حافظ الأسد، ليأتي الوريث ضعيفاً ومتصاغراً أمام النفوذ الإيراني، وحتى أمام نفوذ حزب الله.
الذريعة الثانية المستجدة هي مواجهة بشار التدخل التركي، ورغم بروز عوامل التهدئة مؤخراً بين أنقرة وبعض العواصم العربية إلا أن عوامل الخلاف قد تبقى فاعلة، فيبقى معها التخويف من الخطر التركي تلميحاً إذا غاب تصريحاً. مزاعم تخليص بشار من النفوذ الإيراني ومساعدته على مواجهة التوغل التركي هي بمثابة وصفة تقليدية للتقارب معه، إذ ينبغي أن يُسند إليه دور ما من أجل تبرير تلك الخطوة، مع علم الجميع بأنه من الضعف بحيث لا يستطيع مواجهة طهران أو أنقرة، والضعف الذي وصل إليه هو تحديداً أهم دافع لدى بعض السلطات العربية لإنقاذه.
تعلم الأنظمة الساعية إلى إعادة بشار إلى الجامعة العربية أن التصعيد الغربي تجاهه، لمناسبة اتهامه رسمياً باستخدام الكيماوي، هو تصعيد لفظي سيصطدم بالفيتو الروسي في مجلس الأمن، بل لا يُستبعد مقابلته بتصعيد هددت به موسكو وهو انسحاب الأسد من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية. حدود التصعيد الغربي يرسمها تصريح بايدن الذي انتقد شنّ بلاده في ما مضى حروباً عبثية، وهو يريد سحب جنوده من الخارج لا الزج بهم في أية حرب جديدة. أيضاً تضع المفاوضات النووية مع طهران حدوداً لضغط إدارة بايدن على بشار، ويُلاحظ تجاهل الإدارة الموضوع السوري تماماً، إلى درجة اضطر فيها الكونغرس مرتين إلى حثّها على وضع استراتيجية تخص سوريا مع تذكيرها بقانون قيصر الذي بقي تطبيقه في الحدود التي وصل إليها أثناء إدارة ترامب.
من المرجح ألا يغيب العامل الإسرائيلي، فتل أبيب التي تمسك بالعصا تهدد بها الوجود الإيراني في سوريا ليست في صدد تقديم جزرة، وربما تشجع أنظمة عربية صديقة على تقديمها. احتمال العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران لا يُستبعد أن يقيّد حرية العصا الإسرائيلية، بحيث تزداد الحاجة إلى تجريب الجزرة العربية، لعل نجاح الأخيرة يصلح ما أفسدته السياسة الإسرائيلية التي تتعرض مؤخراً لانتقادات داخلية بسبب سماحها بتمدد النفوذ الإيراني في سوريا إلى حد صار من الصعب ردعه بغارات الطيران.
بالحديث عن كونها جامعة للأنظمة العربية، نخطئ بفهم هذا الوصف تقليدياً وكأن الأنظمة منفصلة كلياً عن أمزجة الشعوب العربية، فنحن نعرف القدر المتدني من التعاطف الذي تناله القضية السورية على امتداد البلدان العربية، بل نعرف التعاطف الساحق الذي يحظى به بشار لدى العديد من شعوب المنطقة أو نخبها. لدينا أيضاً نموذج نسترشد به هو صدام حسين الذي لم تتأذَّ شعبيته العربية جراء استخدامه السلاح الكيماوي، وهي حادثة أشهر من حملة الأنفال التي خلّفت عدداً أضخم من الضحايا.
خارج الأنظمة العربية، لدينا إرث من المعجبين بالطغاة يجعل من بشار الكيماوي حبيب ملايين العرب، وهؤلاء ينقسمون بين من ينكر استخدامه الكيماوي ومن يبرره. يتفق الذين ينكرونه والذين يبررونه على استخدام نظرية المؤامرة الكونية، فهو إما متهم بريء من قبل أقطاب تلك المؤامرة، أو اضطر إلى استخدام الكيماوي لمواجهة المؤامرة. لا بد من مؤامرة عظمى للإعجاب بالطاغية، وكلما ازدادت جرائمه يجب التحدث عن مؤامرة أعظم تستهدفه. أما من ناحية الأنظمة العربية فربما يجوز تلخيص ما حدث كالتالي؛ جُمّدت عضوية بشار في الجامعة العربية لأنه فشل حينها في قمع الثورة، والآن يستحق بجدارة العودة إليها طالما أثبت قدرته على البقاء والنجاة رغم كل ما ارتكبه من فظائع.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت