جاء مفاجئا كلام رئيس النظام السوري بشار الأسد حول “إمكانية استئناف المفاوضات مع إسرائيل، وإقامة سلام معها، رغم اشتراطه بإعادة كل الأراضي السورية التي تحتلها إسرائيل، ويمكن أن نقيم علاقات طبيعية معها فقط عندما نستعيد أرضنا، المسألة بسيطة جداً”..
الأكثر مفاجأة أن حديث الأسد جاء عبر وكالة سبوتنيك الروسية، مما قد يحمل إشارات من موسكو بإمكانية دخولها وسيطة في مثل هذه المفاوضات، إن حصلت مستقبلا، في محاولة منها لتعبئة الشاغر الأميركي الناجم عن تراجع نفوذها في الأراضي السورية، والملف السوري عموما.
والمفاجأة الثالثة أن تصريحات الأسد الأخيرة عن السلام مع إسرائيل تتزامن مع تحضيرات الأخيرة مع لبنان، الذي يسيطر عليه حزب الله، حليف دمشق، للشروع في مفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية، وهو أمر لافت وجدير بالدراسة!
لا أحد يعلم بدقة الدافع الذي جعل الأسد يتحدث بمثل هذا الموضوع، وهو يعلم، مثلنا تماما، أننا أمام حكومة إسرائيلية يمينية، وإدارة أميركية أكثر يمينية منها، وصل الأمر بينهما لتسمية مستوطنة جديدة في هضبة الجولان باسم الرئيس الأميركي ترامب، عقب اعترافه بالسيادة الإسرائيلية عليها، مما يؤكد أنه لا آمال مرتقبة بإمكانية الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، فعلام يعول الأسد في حديثه هذا؟
العودة سنوات قليلة إلى الوراء تشير إلى أن إسرائيل قدمت إلى سوريا عرضا في 2009 لبحث مستقبل الجولان، وفقا للجنرال عوزي أراد رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، يتم بموجبه تبادل أراضي تشمل هضبة الجولان بتدخل من الأردن والسعودية، حيث قضت الوساطة الأميركية بأن يتم التنازل الإسرائيلي عن معظم التجمعات الاستيطانية اليهودية في الجولان، في حين أن الأردن ستنقل أراضي منها لسوريا، مقابل أن تبقى بعض مناطق الجولان بأيدي إسرائيل.
العرض الأميركي الذي قدمه المبعوث الأميركي لسوريا السابق فريد هوف لوزير الخارجية وليد المعلم، يقضي بأن تمنح السعودية للأردن قطاعا ساحليا على طول عشرة كيلومترات من جنوب العقبة، مقابل أن تحصل منها على أراض في الحدود المشتركة، لكن دمشق رفضت العرض، مع العلم أن أربعة من رؤساء الحكومات الإسرائيلية أبدوا استعدادا للتنازل عن هضبة الجولان، اثنان من حزب العمل هما إسحاق رابين وإيهود باراك، واثنان من حزب الليكود هما إيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، والأخير ذاته أجرى في 2010 و2011 مفاوضات جدية غير مباشرة مع الأسد، للتنازل عن الهضبة.
لكن التطورات السورية الداخلية منذ 2011، وما تبعها من تزايد النفوذ الإيراني في دمشق، أجرت تحولا في الموقف الإسرائيلي، بزيادة الحديث عن استراتيجية منطقة الجولان، واعتبار التنازل عنها يضعف كل الحدود الشمالية الإسرائيلية، وبالتالي فهي قد تتحول إلى تهديد دائم على إسرائيل، مع تنامي مظاهر التمركز العسكري للمجموعات المسلحة على طول حدود الجولان.
العودة عقدا من الزمن إلى الوراء تجعلنا نستذكر الصمت الإسرائيلي، وعدم إطلاق تصريحات علنية آنذاك حول ما شهته سوريا، وهو ما كان مرده إلى أن التقديرات الأمنية المختلفة تشير أن الأسد سيسقط خلال زمن قصير، لكن التقديرات الاستخبارية التي تقدم على طاولة النقاشات السرية في إسرائيل تفيد بأن الأسد باق في منصبه عقب انتهاء المعارك بمختلف أنحاء سوريا، وهي تقديرات مختلفة تماما عما تم تقديمها في سنوات سابقة حين تحدثت عما أسمته “سوريا الجديدة” المكونة من كانتونات صغيرة.
الخارطة الجديدة لسوريا فيها العديد من البصمات، وإسرائيل لا ترى في جميعها نقاطا سوداء، ورغم أنها ليست لاعبا مركزيا في تحديد الهوية المتوقعة لسوريا الغد بعد انتهاء الحرب، لكن إسرائيل ترى لها مصلحة واضحة من الناحية العسكرية والسياسية في بقاء الأسد رئيسا لسوريا مجددا، في حال دخلت على خط إعمارها أطراف دولية وإقليمية لإبعاد التأثير الإيراني الذي تمثله إيران وحزب الله.
إن إمكانية عقد اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا أمر قائم، لاسيما إذا ما حظي هذا الاتفاق ببعض الشروط الإضافية، كالدعم الأميركي مثلا، حينها ستكون سوريا معنية جدا بتوقيعه مع إسرائيل، وفق التقدير الإسرائيلي.
سيتكون اتفاق السلام هذا، فيما لو خرج إلى حيز الوجود، من أربعة مركبات أساسية: نقل هضبة الجولان للسيادة السورية الكاملة، وهذا أمر يزداد صعوبة مع مرور الوقت، إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الدولتين، إيجاد ترتيبات ميدانية تفصيلية خاصة بقضايا المياه، والإجراءات الأمنية، التي “ستعوض” إسرائيل عن فقدانها لتلك الأراضي، إمكانية أن يكون لاتفاق السلام هذا تبعات وآثار إيجابية على البنود المذكورة.
حتى كتابة هذه السطور ليس هناك من بوادر تشير إلى تلك التقديرات المأمولة، وكل المحاذير المنطقية القائمة تعطي مؤشرات خطرة، ويفترض أن تحذر من أي اتفاق سلام إسرائيلي-سوري محتمل، في ظل المعطيات المتوفرة حالياً، رغم أن اتفاق السلام الإسرائيلي-السوري سيقيم جدارا في العلاقات بين سوريا وإيران.
مع العلم أنه حتى لو أن العلاقات بين إيران وسوريا أصابها بعض من الضرر في أعقاب اتفاق السلام الافتراضي مع إسرائيل، فإن هذا الأمر ليس مضمونا حتى اللحظة، فالسوريون رسميا يعلنون أن هذا الأمر ليس سهلا لهذه الدرجة، كما أن إيران ذاتها التي بقيت صامتة حتى اللحظة عن تصريحات الأسد الأخيرة، قد لا تبدي معارضة كلية لاتفاق سلام مع إسرائيل، إذا ما اشتمل هذا الاتفاق على تنازلات إسرائيلية في موضوع الأراضي.
أكثر من ذلك، فإن هذا الاتفاق –فيما لو تم فعلا- قد لا يتطرق للموضوع الأساسي والخطر المركزي الذي تملكه إيران، وهو الملف النووي، مع أن سوريا ربما تكون في حاجة ماسة إلى إيران اليوم، والأخيرة فعليا تبدو محتاجة جدا لسوريا، ورغم أن التهديد الاستراتيجي الأكثر خطورة اليوم على إسرائيل يتمثل فعليا في السلاح النووي الذي تحوزه إيران، فإن إمكانية حيازته لهذا السلاح، ربما لن يؤثر من قريب أو بعيد على إمكانية عقد اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا.
يأمل الإسرائيليون أن اتفاق سلام مفترض بين سوريا وإسرائيل، سيضعف من قدرات حزب الله، فخلال عامي 1999-2000، سيطر السوريون كليا على لبنان، ولو بصورة غير رسمية، وخلال تلك الفترة لم يكن بوسعهم إغفال مسؤوليتهم عما يحصل داخل الأراضي اللبنانية، وكانوا على قناعة من حقيقة أن أي اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا، يعني ضمنيا اتفاق سلام مماثلاً بين إسرائيل ولبنان، وبالتالي، فإن توقيع اتفاق سلام كهذا بين إسرائيل ولبنان، كان سيعني عمليا أن يتدخل السوريون ميدانيا “لتفكيك” القوة القتالية لمنظمة حزب الله.
لكن الضغط الدولي الكبير الذي مارسته القوى الكبرى في العالم، اضطر سوريا خلال 2005 لإخراج قواتها العسكرية من داخل الأراضي اللبنانية، واليوم لا تبدو السلطات السورية مسؤولة فعليا عما يحصل داخل جارتها لبنان، وتبدو معنية بـ”إغفال” مسؤوليتها عن تطورات الوضع اللبناني، لكنها في ذات الوقت تقدم كل ما يمكن لتقوية حزب الله.
ومع ذلك فإنه حتى لو عقد اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا، فإن حزب الله سيبقى يشكل تهديدا حقيقيا على إسرائيل، صحيح أنه في اللحظة التي يتم توقيع اتفاق السلام هذا، قد لا يكون هناك تواجد عسكري للقوات الإسرائيلية في هضبة الجولان، لكن حزب الله سيواصل تهديداته من على الحدود اللبنانية.
يقدر الإسرائيليون أن حديث الأسد عن اتفاق سلام محتملاً مع إسرائيل، في حال انسحبت من الجولان السوري المحتل، سيمنع تسلح حزب الله الذي يتلقى الدعم الأساسي، والمساعدة المركزية، سياسية واقتصادية وعسكرية، من إيران، التي تواصل دعمه ومساعدته وإسناده عبر الأراضي السورية تحديدا، بجانب طرق ووسائل أخرى، اليوم تبدو المصلحة السورية في استمرار تقوية وتعاظم قوة الحزب حتى بعد توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وبالتالي فإن التوقع السائد أن يستمر شحن الأسلحة من سوريا للحزب، بأخذ المزيد من الاحتياطات اللازمة، لتأخذ طرق الإيصال وسائل أكثر سرية.
تذهب توقعات إسرائيلية إلى أن أي اتفاق سلام محتمل مع سوريا، وفقاً لحديث الأسد، قد يدعم استئناف المسار الإسرائيلي الفلسطيني المعطل منذ 2014، مع أنه يمكن الافتراض أن العكس هو الصحيح، وقد يبدو من الصعوبة على إسرائيل أن تدير مساري تفاوض في آن واحد بسهولة ويسر، لاسيما وأن الفلسطينيين قد يشعرون في هذه الحالة بأنهم لا يحتلون أولوية أساسية لدى إسرائيل، وبالتالي قد يتسبب ذلك بإشاعة حالة من اليأس والإحباط لديهم، وفي هذه الأجواء ربما تكون الأرضية مهيأة لاندلاع “الانتفاضة الثالثة”.
مع أن حديث الأسد عن اتفاق سلام ما مع إسرائيل، يتزامن مع تحسن علاقات إسرائيل مع العالم العربي عموما، ودول الخليج خصوصا، التي تبدي هرولة غير مفهومة تجاه التطبيع والتقارب مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته تستأنف علاقاتها مع سوريا، وتعيد افتتاح سفاراتها في دمشق، وتنخرط في مشاريع إعادة إعمار البلد المدمر، فهل كل ذلك تم عشوائيا أو اعتباطيا، أم أنه تزامن عفوي؟!
تتحدث الأوساط الإسرائيلية أن أي اتفاق سلام مع سوريا سيرفع من الدعم الدولي لإسرائيل، رغم أنه ليس هناك من صلة مباشرة بين الأمرين، فالعالم يبدو “غاضبا” على إسرائيل بسبب احتلالها للفلسطينيين، ويريد منها حل هذه المشكلة، وبالتالي فإن توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل وسوريا سيكون تأثيره على منح إسرائيل تلك الشرعية متواضعا جدا.
لا أظن أن مثل هذه المواقف غائبة عن الأسد أو مستشاريه، مما يطرح علامات استفهام عديدة حول توقيت طرح استعداده للسلام مع إسرائيل، في حال أعادت الجولان السوري المحتل، مما يعيد للأذهان تلك التقديرات الإسرائيلية التي بدأت تظهر أوائل 2011، مع اندلاع المظاهرات الاحتجاجية الشعبية ضد النظام، بالقول إن بقاء الأسد يعد خبراً ساراً لإسرائيل، رغم كل المواقف السياسية المتباينة الأخرى.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت