توازنات جديدة في شمال سورية: ماذا سيحدث لـ”هيئة تحرير الشام”؟
نشر هذ المقال باللغة التركية لأول مرة بتاريخ 19 أكتوبر/نشرين الأول 2022 على موقع “fikirturu“
- ماهي المعاني التي تحملها العملية الأخيرة لـ “تهيئة تحرير الشام” التي ايضاً تسيطر على إدلب، والتي تعد مفتاحاً في العلاقات بين أنقرة سورية وروسيا؟
- كيف تغيرت التوازنات في شمال سورية؟
- ماذا يعني ذلك بالنسبة للمستقبل؟
- ماذا سيحدث لإدلب؟
في الأيام الـ 10 الماضية، كانت هناك سلسلة من الأحداث في الشمال السوري، من شأنها أن تغير التوازنات المحلية على المدى القصير، والعديد من التوازنات في سورية على المدى الطويل.
ستجد التفاصيل داخل المقال، ولكن سألخصها لأولئك الذين لا يستطيعون الانتظار. ما حصل حول سيطرة “هيئة تحرير الشام” التي كانت حاكمة إدلب لمدة 3 سنوات، لفترة وجيزة على عفرين التي تخضع لسيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا. وأثناء تقدمها نحو أعزاز، اشتبكت مع بعض مجموعات “الجيش الوطني السوري”.
وبعد أن استمر القتال لمدة يوم، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، في اليوم التالي لوقف إطلاق النار قصفت الطائرات الروسية عفرين وبالقرب من أعزاز، مما يدل على موقفها في مواجهة ما كان يحدث، وتسببت خطورة شروط وقف إطلاق النار، في رفض الفصائل المهزومة في “الجيش الوطني السوري”، قبول الوضع وعدم الاعتراف بالاتفاق، ثم بدأ الصراع مرة أخرى. هزمت “هيئة تحرير الشام” الآخرين من خلال التعاون مع بعض مجموعات “الجيش الوطني السوري”. ثم تدخلت تركيا وتم التوصل إلى وقف جديد لإطلاق النار، وفي نهاية المطاف أكدت “هيئة تحرير الشام” بشكل غير مباشر تفوقها في منطقة من عفرين إلى الباب.
بالنسبة لأولئك الذين لا يريدون أن يضيعوا في عشرات التفاصيل والعلاقات المعقدة في سورية، ينتهي المقال هنا. ولكن بالنسبة للذين يتساءلون عن أسباب ما يحدث ومن هم الفاعلين والى اين سيؤدي ما حدث، فإن الامر يبدأ الآن.
ما هي الديناميكيات الرئيسية للعملية؟
كان يمكنني إعطاء تسلسل زمني لما حدث في اليوم الأخير، ومن ثم القول “انظروا، هذا ما حدث”، وعلى أي حال “هذه المجموعات دائما هكذا “، ويمكنني بسهولة اتباع الطريق الاسهل والقول “الجماعات في سورية كلها متشابهة، إنهم جميعاً ملتحون ومسلحون، ولكن ما هو الفرق…”.
يمكنني أيضاً بناء تحليل على التعميم، ولكنني سأختار الطريق الصعب، ما حدث مهم جداً لدرجة أن شرح التطورات دون معرفة الإطار الرئيسي للعملية، لا يكفي لإقامة علاقة بين السبب والنتيجة.
يمكن فهم الديناميكيات الأساسية لهذه العملية، والتي قد تؤدي إلى توسع منطقة نفوذ “هيئة تحرير الشام” التي تأسست بالانفصال عن “جبهة النصرة” ذراع تنظيم “القاعدة” في سورية، وتوسيع منطقة سيطرتها في سورية على المدى الطويل، وفقاً لثلاثة محاور رئيسية:
- الصراع على السلطة الذي لا ينتهي أبداً داخل “الجيش الوطني السوري”.
- “هيئة تحرير الشام يجب أن تتوسع” من أجل البقاء على قيد الحياة.
- آثار الحرب في أوكرانيا على سورية.
- الديناميكية الأولى: صراع لا نهاية له على السلطة في الجيش الوطني السوري:
استضاف “الجيش السوري الحر”، أو “الجيش اوطني السوري” كما هو عليه اليوم، العديد من الجماعات التي كانت تقاتل ليس فقط ضد “إدارة دمشق”، ولكن أيضًا مع بعضها البعض منذ 11 عامًا، ولا توجد اختلافات أيديولوجية فقط بين هذه الجماعات، بل هناك الصراع على القيادة، والخلافات القبلية، والاختلافات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس من مختلف المناطق، والأعمال العدائية الناشئة عن تقاسم “الغنائم” مستمرة منذ سنوات.
النقطة المشتركة الوحيدة للعديد بين الجماعات هي معارضة نظام الأسد، ومع ذلك، مع مرور الوقت فقدَ البعض هذا الموقف. بعض مجموعات “الجيش السوري الحر” في جنوب البلاد اليوم متحالفة مع إدارة الأسد، ولكن، جميع مجموعات “الجيش الوطني السوري” تقريبًا الموجودة في شمال سورية قاتلت وما زالت ضد “إدارة الأسد”، ومع ذلك فإن هذه النقطة المشتركة لا تكفي لإزالة الخلافات بينهما.
بُذلت محاولات عديدة لإعادة تنظيم “الجيش السوري الحر” منذ عام 2018 في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” ثم “نبع السلام” منذ عام 2019، لتجميعهم تحت سقف واحد. إن التقدم في إطلاق اسم “الجيش الوطني السوري” SMO اليوم تحت مظلة وزارة الدفاع التابعة لـ”الحكومة السورية المؤقتة” هو نتيجة لهذه المبادرات.
ولكن، وعلى الرغم من كل الجهود لا تزال هذه المجموعات غير قادرة على تطوير تنظيم عسكري موجه نحو هدف واحد. ففي العامين الماضيين فقط ظهرت أربع تشكيلات عليا أو تجمعات جديدة على الأقل تحت مظلة “الجيش الوطني السوري”، علاوة على ذلك، ضمن كل هذه المجموعات هناك مجموعة غادرت وانتقلت إلى أخرى.
ولكن، وكما يتضح في تاريخ العالم من قصص، أن جميع الجهات الفاعلة غير الحكومية التي حملت السلاح ضد الحكومة المركزية، فإن الجماعات المسلحة التي لا يمكن تنظيمها في ظل تسلسل هرمي مركزي ومستمر، بعد فترة توجه أسلحتها ضد بعضها البعض وذلك بغض النظر عن مدى تشابه أهدافهم، ولم يتم كسر هذا المبدأ في شمال سورية أيضًا.
وبشكل أكثر تحديداً، منذ عام 2020 شكلت “الجبهة الشامية” وهي أكبر جماعة تابعة لـ”الجيش الوطني السوري” في شمال سورية، تحالفاً كبيراً مع “جيش الإسلام”، الذي فر من الهجوم الكيميائي في الغوطة الشرقية، واستقر في مدينة الباب مصطحباً معه بعض المجموعات الصغيرة.
بعد هذه المرحلة التي سأتحدث عنها بالتفصيل أدناه، تحول هذا التحالف إلى أكبر تحالف في”الجيش الوطني السوري” تحت اسم “الفيلق الثالث”، ولما كان هذا الاتحاد يميل إلى تقسيم معظم الأماكن السكنية الكبيرة في شمال سورية من عفرين إلى تل أبيض فيما بينهم، بدأت الاضطرابات الكبيرة في الظهور مع مجموعات أخرى في “الجيش السوري الوطني”.
بالنسبة للعديد من المجموعات داخل “الجيش الوطني السوري” لم يعد التهديد الحقيقي يأتي من الخارج، بل من الداخل، فهم أيضاً بدأوا في طلب الدعم من “هيئة تحرير الشام”، قوة “المعارضة” الوحيدة التي من شأنها أن توازن هذا التحالف الجديد، وعلى الرغم من مرور حوالي 15 شهراً على بدء هذه المرحلة لم يكن هناك جدول أعمال مناسب.
- لماذا تسعى “هيئة تحرير الشام” للتوسع؟
نأتي لمناقشة الديناميكية الثانية..من المفهوم أن “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على ادلب التي تبلغ مساحتها 2800 كم2، ولديها أكثر من 20 ألف مسلح مرتبطين بها مباشرة (قوة الجماعات التابعة لها غير مدرجة في هذا العدد)، تشعر بأنها مضطرة للتوسع والهيمنة على المزيد من المناطق من أجل البقاء على قيد الحياة في خطاباتها وسلوكياتها.
لماذا؟
اولاً وقبل كل شيء، قصة نمو “هيئة تحرير الشام” وقوتها تمت عبر ضم جماعات مسلحة أخرى، من خلال هزيمتها أو تجنيدها، مستغلة الظروف التي تجعلها تضعف، ومن الواضح أنهم يعيشون مع “جبهة النصرة” التي كانت ذات يوم الفرع السوري لتنظيم “القاعدة”، ومن خلفائها.
وبالمثل سيطرت على منافسيها السابقين ” أحرار الشام، نور الدين زنكي، جيش النصر”، وعلى العديد من الوحدات الأصغر الأخرى، لكن النمو العسكري ليس سوى جزء من قصة “هيئة تحرير الشام”.
ما الذي تحاول “هيئة تحرير الشام” القيام به في إدلب؟
أصبحت “هيئة تحرير الشام” القوة الرئيسية التي تسيطر على إدلب منذ منتصف عام 2019، ثم واجهت مشكلة كبيرة.
ففي منطقة جغرافية تبلغ مساحتها حوالي ثلث المساحة الإجمالية التي تسيطر عليها المعارضة، شرعت في بناء هيكل يحكم مجتمعاً اقتصادياً وسياسياً، ويبلغ عدد سكان تلك المناطق 1.5 ضعف عدد سكانها، ولم يكن جزء الإدارة السياسية صعباً للغاية، فمن خلال زيادة عدد قوات الأمن المحلية كان من الممكن السيطرة على ردود الفعل في الداخل من خلال إقامة نظام قمعي، لكن الحياة الاقتصادية لها ديناميكيات أخرى.
إدلب هي منطقة لا توجد فيها موارد طبيعية، والإنتاج الزراعي غير كاف، والإنتاج الصناعي يكاد يكون صفراً. كان من المفترض أن تسيطر “هيئة تحرير الشام” على طرق التجارة لتغطية رواتب ومعدات وتدريب ونفقات أخرى لعشرات الآلاف من الرجال المسلحين، وبما أن باب الهوى (التسمية السورية للمعبر المسمى من الطرف التركي بـ Cilvegözü) على الحدود التركية لم يكن كافياً، فقد حاولت كثيراً فتح معبر حدودي مع مناطق “إدارة الأسد” ولم تنجح في تحقيق هذا الهدف ويرجع ذلك في جزء منه إلى ردود الفعل المحلية، والجزء الأخر إلى عرقلة روسيا، ولهذا السبب تحتاج “هيئة تحرير الشام” إلى السيطرة على بوابات أخرى على الحدود التركية والحياة الاقتصادية في أماكن مثل عفرين وأعزاز والباب، وهي أغنى بكثير من إدلب، من أجل البقاء اقتصادياً.
عفرين جذابة اقتصادياً بسبب السيطرة على طرق التجارة، فهي مفترق طرق كامل لأعزاز، والباب، هي أيضاً واحدة من الأماكن النادرة في المنطقة حيث يمكن القيام بالنشاط الصناعي، وإن كان قليلاً.
كل جماعة موجودة في سورية لا تستطيع دفع رواتب رجالها المسلحين وتنظيم الحياة الاقتصادية ليس لديها فرصة للبقاء على قيد الحياة، ومهما كانت أيديولوجيتهم، لذلك جميع الجماعات تركز على هذه النقطة، ولهذا السبب تعتقد “هيئة تحرير الشام” أنها إذا لم تتوسع فسوف تنهار.
وحقيقة أن شمال سورية يتمتع بنسيج اجتماعي خالٍ من السلفية لا يمثل عقبة رئيسية أمام “هيئة تحرير الشام” كانت معظم إدلب بعيدة كل البعد عن الممارسات السلفية، لقد تغيرت “هيئة تحرير الشام” قليلاً وتغير اهل ادلب قليلاً والتقوا معاً بطريقة ما.
بالطبع، شمال سورية أوسع وتكلفة السيطرة على البنية الاجتماعية أكبر، ولكن، يبدو أن “هيئة تحرير الشام” تعتبر أنها عالقة في إدلب وذلك بمثابة انتظار للانقراض(الاختفاء)، وهذا التصور يقودنا إلى العامل الثالث: آثار الحرب في أوكرانيا.
- آثار الحرب في أوكرانيا:
ناقشنا هذه المسألة في مقال سابق، لذلك لن أخوض في التفاصيل، ولكن هناك حاجة إلى التذكير ببعض الأمور قليلاً لفهم الفترة الماضية. (أهم آثار هذه الحرب):
- عندما اضطرت روسيا إلى تقليص وجودها العسكري في سورية بسبب الحرب في أوكرانيا، انخفض الضغط الروسي على كل من “الجيش الوطني السوري” و”هيئة تحرير الشام”، وتسبب انخفاض القصف على إدلب في شعور “هيئة تحرير الشام” بشكل خاص بأنها أقوى، وأن لديها القوة اللازمة للتحول إلى مناطق أخرى.
- كانت “هيئة تحرير الشام” بحاجة إلى دعم “الجيش الوطني السوري” ضد روسيا ودمشق، وتأمل في دعمهما في الصراعات عام 2020، وعندما انخفض الضغط العسكري عليها شعرت بالقوة الكافية لإبراز قوتها ضد محيطها، وكان هذا العامل أحد العاملين الرئيسيين اللذين شجعا “هيئة تحرير الشام”، لكن العامل الآخر أكثر وضوحاً وأهمية.
خط موسكو-أنقرة-دمشق
القضية الأولى التي تتبادر إلى الذهن عندما يتعلق الأمر بسورية في الأسابيع الأخيرة، هي المحادثات المحتملة بين أنقرة ودمشق. لا أحد يعرف هل موسكو هي التي شجعت هذه العملية؟، يمكن لموسكو وأنقرة الاتفاق على العديد من القضايا حول سورية، على الرغم من انه لا تزال الاختلافات في الرأي مفتوحة حول بعض القضايا، وعلى رأس قائمة هذه الاختلافات، وربما الأكثر صعوبة في الحل هي إدلب.
ترى تركيا أنه إذا دخلت “إدارة دمشق” الى إدلب، فقد تبدأ موجة هجرة من ثلاثة ملايين شخص، لذلك فهي تؤيد الحفاظ على الوضع الراهن في إدلب.
لكن، بالنسبة لروسيا و”إدارة الأسد” تبقى للسيطرة على جنوب إدلب على الأقل، أهمية استراتيجية بالنسبة لحلب واللاذقية.
الورقة الرابحة الأكثر أهمية لروسيا هي وجود “هيئة تحرير الشام” في إدلب، وطالما بقيت “هيئة تحرير الشام” في إدلب ستكون إدلب هدفاً، ولأن روسيا تعتبرها واحدة من أكبر عقبتين أمام هيمنة إدارة دمشق الكاملة على البلاد، (والآخر هو حزب الاتحاد الديمقراطي) فهي لا تريد “هيئة تحرير الشام “في إدلب أو حتى في سورية بأي شكل من الأشكال.
ما الذي تريده “هيئة تحرير الشام”؟
الصيغة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ “هيئة تحرير الشام” هي تغيير اسمها والتحول شمالاً وشرقاً إلى مناطق لا توليها دمشق وموسكو أهمية أساسية، في حين أن الطريق السريع الذي يعبر المنطقة على المحور الشرقي الغربي في إدلب يعوض عن الخسارة المحتملة للمنطقة الإقليمية والدخل التجاري في الصراعات التي قد تحدث في M4 وحولها على المدى الطويل، يمكن اعتبار ذلك نوعاً من المخرج للحصول على مظهر جديد عبر الاختلاط مع الجيش الوطني السوري الذي لم يعد مشابهاً لهيئة تحرير الشام.
وهذا يمكن أن يزيل إحدى العقبات الرئيسية بين أنقرة ودمشق، بالإضافة إلى ذلك فإن الآليات الأمنية التي يمكن إنشاؤها بمشاركة موسكو بين الاثنين قد تؤدي لإزاحة إحدى العقبات أمام المصالحة التركية السورية.
وبعبارة أخرى، فإن أحد مفاتيح العلاقات الجديدة التي يمكن إقامتها مع سورية في فترة تَجّرُ فيها الحرب الأوكرانية تركيا إلى مجموعة جديدة من(تشابك) العلاقات مع روسيا، يكون جزءاً منها على الاقل هو انسحاب “هيئة تحرير الشام” من إدلب وتغيير مظهرها.
لهذا السبب، نرى مرة أخرى إحدى من الدورات الأساسية التي كانت تحدث منذ بداية الحرب “الأهلية” في سورية: إذا لم تتمكن من التمسك بمنطقة ما، فانتقل إلى منطقة أخرى.
خلفية الأحداث
الآن نأتي إلى ما حدث في 10 أيام … سأعود بك إلى الوراء سنة ونصف لأبحث في قصة 10 أيام، لأن الأسئلة التالية تتزايد: ماذا حدث فجأة عندما جاء هؤلاء “القاعديون” إلى أعزاز؟ هذا له تاريخ خطير، هيا لنبدأ.
حتى قبل أن تدور الحرب الأوكرانية ويتعامل العالم مع COVID، تم تشكيل مجموعة مسلحة صغيرة تسمى “جيش القعاع” في عفرين في حزيران/ يونيو 2021، حيث حاولت مجموعة مكونة من 50 شخصاً بقيادة عضو سابق في “جبهة النصرة” تصوير نفسها على أنها فرع “هيئة تحرير الشام” في عفرين.
في الواقع لم تستطع هذه المجموعة تمثيل “هيئة تحرير الشام” أو السيطرة على قرية في عفرين، ولكن لوحظ أنها أول علامة ملموسة على رغبة “هيئة تحرير الشام” في الانتقال إلى عفرين.
في حقيقة الامر، بعد أقل من شهر في منتصف تموز/يوليو، قام أحد أبرز قادة “هيئة تحرير الشام” (الذي كان يتفاوض أيضاً على وقف إطلاق النار مع الجبهة الشامية في الأيام القليلة الماضية) بزيارة إلى أعزاز وضواحيها، وخلال هذه الزيارة التقى بقادة بعض جماعات “الجيش الوطني السوري” وخاصة “الجبهة الشامية”، كان ينظر إلى شهية “هيئة تحرير الشام” للمنطقة على أنها فرصة لخلق فوائد اقتصادية لـ”الجبهة الشامية” في المقام الأول، ولكن عندما أدركت “الجبهة الشامية” أنه سيتم ابتلاعها قريباً من قبل “هيئة تحرير الشام” ذهبت للبحث عن توازن عسكري من خلال أخذ مجموعات أخرى معها.
ونتيجة لذلك، قرب نهاية تموز/يوليو 2021، شكلت “الجبهة الشامية” و”فرقة السلطان مراد” و”أحرار الشرقية” و”السلطان ملك شاه” والعديد من المجموعات الصغيرة الأخرى، هيكلاً جديداً داخل “الجيش الوطني السوري” يسمى “عزم”.
وبعد أيام قليلة من الإعلان عن هذا التشكيل زار “أعزاز” وضواحيها رئيس “المجلس الإسلامي السوري” أسامة الرفاعي، الذي يحظى باحترام كبير من المعارضة السورية من وجهة نظر دينية، لأن “الجبهة الشامية” وغيرها، أرادت تحقيق التوازن بينها وبين “هيئة تحرير الشام” ليس فقط عسكرياً، ولكن أيضاً “دينياً”. وقد أدت الجهود المبذولة لتحقيق التوازن المتبادل إلى زيادة تشكيل تحالفات جديدة داخل “الجيش الوطني السوري”، اعتباراً من أيلول/سبتمبر 2021 فصاعداً، مع خروج بعض الجماعات من تحالف لآخر.
وعلى سبيل المثال في أيلول/سبتمبر 2021 اجتمعت مجموعات مثل “الحمزة والمعتصم وصقور الشمال وسليمان شاه” تحت اسم “الجبهة السورية للتحرير”. كما أعطت مجموعات مثل “الجبهة الشامية” و”جيش الإسلام” و”لواء السلام “… الخ وبدأوا في التعاون في إطار هيكل جديد أطلقوا عليه اسم “الفيلق الثالث”. وفي الوقت نفسه تقريباً أصبحت مجموعات أخرى من “الجيش الوطني السوري” (مثل التشكيل الجديد بقيادة فرقة السلطان مراد) لتطلق على نفسها اسم “حركة ثائرون”.
الشرارة الأولى
لفترة من الوقت هذه الانتقالات والأسماء وكذلك أي مجموعة كانت تحت سقف “الجيش السوري الحر” أصبحت مربكة حتى بالنسبة لأولئك الذين يتابعون الموضوع كل يوم، ولكن كانت هناك ظاهرة واحدة لا يمكن “الاختلاط- الاختلاف ” في هذه العملية، حيث كانت جميع هذه المجموعات داخل “الجيش الوطني السوري” تجتمع مع “هيئة تحرير الشام” علناً أو سراً، وفي بعض الأحيان كانوا يرسلون ممثلين لبعضهم البعض، وأحياناً يقومون بزيارات شبه سرية (والتي تصنف ضمن المصادر المفتوحة على الرغم من أنها سرية) حيث ناقشوا إمكانيات “التعاون”.
بحلول عام 2022 أصبحت هذه الاجتماعات أكثر تكراراً، ولكن ظهرت معادلة أخرى ضمن هذا الخط من المحادثة، بينما أصبحت المجموعات التي تقودها “الجبهة الشامية” و”جيش الإسلام” قطباً، بدأت مجموعات “الجيش الوطني السوري” الأخرى ترى انها تشكل تهديداً كبيراً لها، لهذا السبب تراجع ترددهم بشأن الاقتراب من “هيئة تحرير الشام”،
بعد كل شيء، في الوقت الذي كانت “هيئة تحرير الشام” تشكل تهديدًا بعيداً، أصبحت “الجبهة الشامية” التهديد الأقرب والأكثر استعداداً لابتلاعها، أظهرت الزيادة في جرعة التوتر المتبادل نفسها مع زيادة الأخبار حول النزاعات بين مجموعات “الجيش الوطني السوري”، ففي عام 2021 تحولت حوادث متفرقة من النزاع المحلي (غالباً تتعلق بالنظام العام) لأسباب شخصية في الغالب إلى معارك مسلحة جماعية أكبر للجماعات استمرت في بعض الأحيان من يوم إلى يومين في عام 2022.
وفي واقع الامر، أدت هذه الأحداث في نهاية المطاف إلى اندلاع الشرارة الأولى.
في 18 حزيران / يونيو نفذت “الجبهة الشامية” و”جيش الإسلام” عملية ضد مجموعة خرجت من “أحرار الشام” التي كانت إحدى أكبر مجموعات المعارضة السورية في الباب.
نتيجة الأحداث التي بدأت في الباب اتجهت “أحرار الشام” التي تعتبر حليفة لـ”هيئة تحرير الشام” إلى عفرين لمساعدة جماعة الشرقية.
ورداً على ذلك دعت وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة” التي ينتمي اليها “الجيش الوطني السوري” جميع المجموعات الخاضعة لسيطرتها إلى المساعدة، كما أصدر “المجلس الإسلامي السوري” بياناً ضد التحرك العسكري لـ”هيئة تحرير الشام”.
لم تعارض أي من مجموعات “الجيش الوطني السوري” الرئيسية مثل “فرقة الحمزة، السلطان مراد، فيلق الشام.. إلخ”، “هيئة تحرير الشام”، فدخلت “هيئة تحرير الشام” بعض قرى وبلدات عفرين دون صعوبة، وعندما تم وقف إطلاق النار وأمنت حليفها عادت إلى إدلب، وتركت ورائها وحدات مراقبة صغيرة، فكانت هذه الأحداث التي وقعت في منتصف حزيران/ يونيو بمثابة بروفة لهذا اليوم.
في حقيقة الامر، إن كل ما حدث في حزيران/يونيو تقدم خطوة أخرى إلى الأمام.
في بداية تشرين الأول/أكتوبر، تبين أن العديد من الأشخاص الذين تم ادانتهم في مقتل ناشط إعلامي وزوجته في 7 أكتوبر/تشرين الأول في الباب كانوا على صلة بفرقة “الحمزة”، وهي واحدة من أكبر وأقرب مكونات “الجيش الوطني السوري” إلى تركيا، عندها بدأ “الفيلق الثالث” بقيادة “الجبهة الشامية” بمهاجمة فرقة “الحمزة” في الباب، وخلال الاشتباكات بين هذه الجماعات تمركزت “هيئة تحرير الشام” مرة أخرى في عفرين في 11 تشرين الأول/أكتوبر، ووجدت “الجبهة الشامية” وأقرب حليف لها “جيش الإسلام” نفسيهما فجأة، في صراع على جبهتين. بالإضافة لذلك، هذه المرة وقف “لواء السلطان سليمان شاه”، الذي كان يتعرض للضغط لفترة طويلة، إلى جانب “هيئة تحرير الشام”، ونتيجة لذلك، أصبحت عفرين كلها تقريباً في أقل من يومين تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” ومجموعات “الجيش الوطني السوري” المتعاونة معها.
تعني شروط اتفاقية النقاط العشر، قبول تفوق “هيئة تحرير الشام” في المنطقة، مع بزوغ فجر اليوم الذي توقفت فيه الاشتباكات جاءت الطائرات الروسية وقصفت عفرين وكفر جنة خط المعركة الأكثر سخونة في الليل.
شروط وقف إطلاق النار
في وقت لاحق في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، أعلن بعض عناصر “الفيلق الثالث” أنهم لم يعترفوا بالاتفاق بدعم من بعض المجموعات الصغيرة، ولذلك في17 تشرين الأول/ أكتوبر هاجمت “هيئة تحرير الشام” أعزاز مرة أخرى وبقوة شديدة، وسيطرت على كفرجنة وضواحيها، وبينما كانت على وشك دخول أعزاز تدخلت تركيا وأوقفت الاشتباكات، وإلا لكان علم “هيئة تحرير الشام” يرفرف في أعزاز اليوم، وتم إبرام وقف جديد لإطلاق النار.
يمكن تلخيص الخطوط العامة للاتفاقية على النحو التالي:
- بينما تنسحب “هيئة تحرير الشام” من وسط عفرين، فإنها ستكون قادرة على الحفاظ على وجودها وهيمنتها في المنطقة المجاورة.
- ستُبقي بعض مجموعات “الجيش الوطني السوري” التي تقف إلى جانب “هيئة تحرير الشام” في الصراع مركز عفرين تحت سيطرتها.
- ستنضم المنظمات غير الحكومية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” إلى الإدارات المدنية في كل مكان تقريباً من عفرين إلى الباب.
- وسيتم إنشاء آلية بحيث ستستفيد “هيئة تحرير الشام” من عائدات جميع اعمال التجارة والبوابات الحدودية تقريباً.
- وعلى حد تعبير “هيئة تحرير الشام” نفسها، سيخضع شمال سورية لـ “إدارة مدنية موحدة”،
- وسيتم توفير الأمن المحلي من قبل وحدة أمنية تابعة بشكل غير مباشر لـ”هيئة تحرير الشام”.
- وسوف ينسحب “الجيش الوطني السوري” من المراكز السكنية ولن يتدخل في الإدارات المدنية.
وبعبارة واحدة، بدأ عصر “هيئة تحرير الشام” مع انتهاء الهيمنة العسكرية لـ”الجيش الوطني السوري” في شمال سورية والهيمنة السياسية والإدارية (إن وجدت!) للحكومة الانتقالية السورية.
الى اين تتجه الامور؟
في البداية، من الضروري أن قول ما يلي، قبول اتفاق تم التوصل إليه في الإطار الموضح أعلاه، تقريباً، يعني بداية النهاية لـ”الجيش الوطني السوري”، ربما لن يكون من الخطأ القول إن “هيئة تحرير الشام” نجحت في سنة ونصف فيما فشلت “دمشق” في تحقيقه خلال 10 سنوات.
بعد ذلك، لدينا أربع احتمالات:
- الاحتمال الأول: هو أن جماعات “الجيش الوطني السوري” التي لا تعارض وصول “هيئة تحرير الشام” إلى المنطقة أو التي تتعاون معها، ستبدأ في الاعتقاد انها عندما أرادت الخروج من حالة سيئة دخلت في حالة اكثر سوء” كشخص أراد الهروب من المطر فوقع في البرد – قولٌ يُضرب بشكل مشابه للمثل الشعبي من تحت الدلف لتحت المزاب”، وإذا حدث ذلك فقد تبدأ دورة جديدة من الصراع بين “الجيش الوطني السوري” و”هيئة تحرير الشام” في شمال سورية.
- الاحتمال الثاني: هو أنه سيكون هناك تغيير في الاسم والهيكل المرئي لـ”هيئة تحرير الشام”، في الفترة المقبلة، مثلما تحولت من “جبهة النصرة” إلى “هيئة تحرير الشام”، فقد تحاول الحصول على اسم جديد وصورة جديدة بمشاركة مجموعات “الجيش الوطني السوري” الكبيرة في المستقبل القريب.
- الاحتمال الثالث: هو ظهور إدلب كبيرة حيث اتسعت منطقة القصف الروسي بشكل كبير، ويشكل الجانب الأكثر جذباً للانتباه في هذا السيناريو هو أن روسيا و” الحكومة السورية” اللتين تستخدمان وجود “هيئة تحرير الشام” كحجة، بدؤا ضرب أماكن أكبر وأكثر ازدحاماً في جنوب إدلب بدلاً من قصف القرى التي يصعب رؤيتها على الخريطة.
لكن، هناك أمر آخر لا ينبغي إغفاله مع استمرار الحرب في أوكرانيا، فلا يمكن لروسيا الشروع في مغامرة جديدة في سورية. بالإضافة لذلك، وبالنظر إلى الوضع الحالي للعلاقات التركية الروسية، يبدو من المنطقي أن يقوم البلدان بتحركات مشتركة بدلاً من المواجهة في سورية.
هناك احتمال آخر
- هذا يقودنا إلى الاحتمال الأخير: وهو مزيج من الاحتمالات الثلاثة المذكورة أعلاه، على مستويات ومقاييس مختلفة، المجموعات التي تُظهر مقاومة محلية لـ”هيئة تحرير الشام” لأنها لا تقبل هيمنتها، و”هيئة تحرير الشام” التي تدعي أنها تغيرت ضدها، وروسيا التي تعتبر كلاهما “إرهابيين” وتضرب منطقة كبيرة جداً.
ما قولكم، ألا تؤدي نهاية هذه العملية برمتها فعلياً إلى زيادة الحاجة إلى التعاون بين أنقرة ودمشق؟ ربما تكون اللحظة التي تشعر فيها “هيئة تحرير الشام” بأنها الأقوى هي بداية تراجعها ونقطة تحول للاستقرار في سورية. على أي حال، لا حاجة للتكهن ففي غضون ثلاثة أو أربعة أشهر سنرى بشكل أوضح أياً من الاتجاهات المذكورة أعلاه سيكون الطريق الرئيسي.
ترجمه لـ”السورية.نت” نادر الخليل زميل في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت