لم يسبق لأحد منا تقريباً أن سمع بعاصفة غبارية قتلت تسعة أشخاص، لكن ذلك حصل بالفعل في ليل منتصف أيار/مايو الجاري في مدينة دير الزور، شرقي سوريا، وقد قتل هذا النوع من العواصف المتكررة بتواتر شبه أسبوعي، العشرات من السكان في العقدين الماضيين، بتصاعد ثابت بلغ ذروته مؤخراً. وتهدد هذه العواصف، التي تخلف طبقة ترابية تغطي كامل المنطقة، وتبلغ في بعض الأحيان شبراً للعاصفة الواحدة، باندثار كل أشكال الحياة هناك في المدى البعيد.
ولا نبالغ هنا عند الحديث عن احتمالية اندثار الحياة في منطقة الجزيرة السورية الواقعة بين نهري دجلة والفرات. ففي العقد الأول من الألفية الثالثة، هجر المنطقة أكثر من مليون ساكن بسبب تردي الظروف الحياتية المرتبطة بالجفاف، بعدما فقد هؤلاء مصدر رزقهم المرتبط بالزراعة. وفي العقد الثاني، هجر المنطقة ما نقدره بمليون نسمة أخرى، بعدما أضيفت أهوال الحرب إلى مأساتهم السابقة. وفي ظل التصاعد المتسارع للجفاف، وما يرتبط به من ظواهر طبيعية متكررة تجعل الحياة أسوأ، سيغادر المزيد من السكان منازل آبائهم وأجدادهم ليبحثوا عن متنفس آخر، بكل ما تحمل كلمة متنفس من معنى فيزيولوجي، فمَن ماتوا مؤخراً قضوا اختناقاً بالتراب.
ومع أن التصحر ظاهرة عالمية، لها أسبابها العابرة للحدود، إلا أن تحول منطقة بعينها، كانت جنّة غنّاء، إلى بؤرة لمحرق الاحتباس الحراري على صعيد الكوكب كله، من دون أي اهتمام أو حلول في الحد الأدنى، هو مسؤولية إضافية للعصابة التي تحكم سوريا منذ أكثر من نصف قرن. فقد تسبب إعطاء رخص حفر آبار على عمق يزيد على كيلومتر للبعض، مقابل رشى كبيرة، في تغيرات جيولوجية أدت إلى جفاف نهر الخابور الشهير على نحو مفاجئ، ما أدى إلى نزوح نحو 700 ألف من السكان واختفاء المساحات الخضراء على ضفتيه، وأدى الاستثمار الجائر للنفط الى تلويث البيئة على نحو قاتل، من دون أن يلحظ ولو لمرة واحدة تخصيص جانب من عوائد ذلك النفط لترميم الأضرار البيئية الناجمة عن استخراجه.
فوق هذا وذاك، سلّم حافظ الأسد المساعدات الدولية السخية للتشجير وإعادة استزراع المناطق المنكوبة، لأحد ضباطه الذين أراد إبعادهم عن الميدان العسكري، فعاث في المنطقة فساداً، بدلاً من أن ينشئ “الحزام الأخضر” الشهير حول مدينة دير الزور وغيرها. ولم تتمخض الملايين التي قدمتها منظمة “فاو” للهيئة العليا للتشجير، ودائرة مكافحة التصحر، عن متر مربع واحد أخضر، بل على العكس تماماً. ونحن هنا لا نتحدث عن الإهمال المقصود للتنمية الزراعية على ضفتي نهر الفرات تحديداً، والذي ذهبت مليارات مكعّبة من مياهه إلى البحر، فيما كان يمكن، بقليل من الضمير الوطني والإنساني، تأمين عملية رفعها إلى الأراضي القابلة للزراعة على ضفتيه، وتحويل المنطقة إلى جنة حقيقية، ومصدر مستدام للثروة والأمن الغذائي.
لقد أضحى الحديث عن جرائم النظام الأسدي مملاً، وأصبح من نافل القول أنه نظام القتل بكل أنواعه، السريعة والبطيئة، وجرائمه لن تنتهي بزواله الذي سيكون حتمياً. وما ينبغي التطلع اليوم كمهمة عاجلة في مرحلة ما بعد سقوط الأسدية في سوريا، هو وضع مهمة الإصلاح البيئي، المهملة وغير المنظورة اليوم، على رأس أجندة الدولة السورية. فمنطقة دير الزور والجزيرة السورية التي تمثل ثلث مساحة سوريا، ليست المثال الوحيد، بل إن زحف التصحر وتصاعد الجفاف يمتد إلى مواقع جديدة كل يوم، وعلى رأسها العاصمة دمشق، وستمتد تأثيراته إلى مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة والاكتظاظ السكاني وكافة المسائل الحيوية المرتبطة بحياة السكان ومعاشهم.
في مقال سابق، قال الكاتب الأميركي، توماس فريدمان، إن الشرق الأوسط يعيش الآن مرحلة تحول من منطقة تشكلها القوى العظمى، إلى منطقة تعيد تشكيلها قوى الطبيعة الأم. وتحدث عن “الصفقة الخضراء الزرقاء”، التي قال إن أطرافاً إسرائيلية تعمل عليها، بحيث يتم إنتاج الكهرباء من الشمس في المحيط العربي، ويتم تحويل الطاقة إلى محطات تحلية المياه، وبالطبع كل ذلك من خلال خبرات وتقنيات تُصنع في إسرائيل، التي توصف بأنها الأكثر تقدماً في العالم في مجال الأبحاث وابتكار الحلول للجفاف.
ومنذ أيام، تم الكشف عن توريد شركة “ووترجين” الإسرائيلية، أجهزة لتوليد المياه من الرطوبة في محافظة الرقة السورية عن طريق وسطاء. والجهاز عبارة عن صندوق يولد الطاقة من الشمس، ويستخلص الماء من رطوبة الهواء، وينتج نحو 900 ليتر من الماء النقي يومياً، من دون أي كلفة تقريباً.
يقودنا ما سبق إلى الاعتقاد، بأن الجفاف والعطش والغبار، سيدفع القاطنين في بلادنا إلى استجداء الإسرائيليين كي لا يُدفنوا تحت الغبار، أو يموتوا عطشاً، ما يرفع المهمة المشار إليها سابقاً للنخب السورية الجديدة، إلى مستوى التحدي الوجودي سياسياً، لتصبح البيئة والقضايا الرئيسية المرتبطة بها، مثل التنمية المستدامة والأمن الغذائي والموارد المتجددة ومياه الشرب والهواء النظيف، مدخلاً أساسياً إلى المستقبل الذي يوصف على نحو متسارع بأنه “عصر البيئة”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت