زيارة ثالثة من رئيس إقليم كردستان العراق خلال عهد ماكرون أجريت نهاية آذار الماضي، تناولت ملفاتٍ متعددة منها الأمن والسياسة والتعاون التجاري، وتربط فرنسا بإقليم كُردستان العراق علاقة إيجابية منذ فرض قرار حظر الطيران فوق كُردستان العراق من قبل مجلس الأمن عام 1991، بعد مهاجمة الجيش العراقي للمدن الكُردية والشيعية على خلفية انهيار انتفاضة 1991، وكان لزوجة الرئيس الفرنسي فرانسوا متيران السيدة دانيال متيران، دور هام في دفع القيادة الفرنسية لتحريك مجلس الأمن باتجاه التدخل لحماية الكُرد شمال خط العرض 36، ومنذ ذلك الحين تُلقب دانيال متيران بين شريحة واسعة من النخبة الكُردية “بأم الكُرد”. هذه العلاقة الودية بين إقليم كُردستان وفرنسا استمرت خلال العقود الثلاثة الماضية، وشاركت فرنسا بقوة في دعم إقليم كُردستان العراق في مواجهة ” تنظيم الدولة”. وتفاصيل أخرى نحتاج الآن فقط لإضاءات تساعد في ربط وقائع يومنا هذا، وهو يتعلق بجزء من الدور الفرنسي فيما يخص المسألة الكُردية في سوريا بعد الثورة.
ارتبطت العلاقة الفرنسية بالتشكيلات الكُردية السورية خلال الثورة بشكلٍ رئيس بالمجلس الوطني الكُردي، على حدة، أو من خلال وجوده ضمن الائتلاف الوطني، وصولاً إلى معركة عين العرب “كوباني” نهاية عام 2014، حيث شاركت فرنسا بقوة ضمن التحالف الدولي، لمحاربة تنظيم الدولة، وخلال شهرين من بداية 2015، استقبل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في قصر الإليزيه ممثلة وحدات حماية المرأة نسرين عبد الله بزيها العسكري، الرئيسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي آسيا عبد الله، مثلت هذه الزيارة نقطةً فارقة في العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية، وتبعت هذه الزيارة بعد عدة أشهر مشاركة واسعة من قبل المستشارين الفرنسيين لدعم قوات سوريا الديمقراطية في المعارك التي امتدت إلى العام 2019، وخلال هذه المدة شهد قصر الإليزيه زيارة أخرى للرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، وكانت هذه التفاعلات الفرنسية جزءاً من كُل، إلى جانب مواقف فرنسية على خلفية إطلاق تركيا لعملية “غصن الزيتون” على عفرين، عام 2018، حيث طالبت مجلس الأمن بالاجتماع لبحث العملية التركية، وخلص المجلس إلى مطالبة تركيا بضبط النفس في عفرين، من دون أن يحقق “ما كان يبدو بأنه نية فرنسا، وهي إيقاف العملية، أو إدانة تركيا”. ورغم وصول حدة التوتر بين الطرفين لأروقة مجلس الأمن، فإن الواقعية السياسية حطّت بطائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد أشهر قليلة من “اجتماع مجلس الأمن”، ليوقع الطرفان هذه المرة اتفاقية تصنيع نظام صواريخ بين الشركتين التركيتين أصيلصان وروكيتصان ومجمع يوروصام الفرنسي الإيطالي، وفيه دعم تركيا بتطوير برنامجها الصاروخي الخاص. (مع العلم أن هذه الصواريخ هي التي يستخدم بعضها من قبل الطائرات التركية المسيرة في الحرب مع حزب العمال الكُردستاني، وداخل سوريا ضد وحدات حماية الشعب).
إذا ما هو الرابط بين هذه الأمثلة القليلة من جملة تفاعلاتٍ كثيرة بين الأطراف التي تم ذكرها وبين دعوة قصر الإليزيه لوفدٍ من شمال شرق سوريا ليقوم بزيارة القصر ويلتقي برئيسه؟
تبرز مجموعة أهداف فرنسية من إرسال دعوة لوفد من شمال شرق سوريا لزيارة باريس، ومن قصر الإليزيه مباشرة؛ ويظهر من طبيعة الدعوة الفرنسية وفق ما تحملها تصريحات من شخصيات من المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي ، بأن تكون مجموعة مصغرة ومتنوعة الخلفيات لا تحمل صفةً حزبية حصرية، فهي ستشمل ممثلين عن الطرفين الكُرديين المفاوضين، بالإضافة لشخصياتٍ من المكون الآشوري، وآخرين عرب، بصيغة تبرز عدداً أقل من ممثلي المنطقة، على خلاف الواقع الميداني الذي يحوي عشرات الأحزاب والتجمعات الحزبية والاجتماعية، وهو ما يمكن استقراؤه على شكل “منصة جديدة” تمثل شمال شرق سوريا بشمولية أكبر.
تأتي الدعوة في وقتٍ توقفت فيه المفاوضات الكُردية على خلفية إشكاليات وخلافاتٍ لم يتم تجاوزها منذ عدة أشهر، وهي ظهرت نتيجة تعرض مكاتب المجلس الوطني الكُردي للحرق، واعتقال بعض أنصاره، بالإضافة لبعض التصريحات من جهة شخصية مسؤولة في حزب الاتحاد الديمقراطي، والتي تم صياغتها بلغةٍ قاسية تجاه المجلس وقوات البيشمركة، وستحمل الزيارة في هذا الصدد رغبةً فرنسية في كسر الموانع الجديدة للعودة لطاولة التفاوض.
هدفٌ آخر لربما تحاول باريس تحقيقه حالياً، وهو إرسال رسالة للطرف التركي، وتتمثل بوجود رغبة بإظهار فاعلية فرنسية سياسية ضمن الملف السوري بشكلٍ عام وملف شمال شرق سوريا بشكلٍ خاص، بعيداً عن الملف الإنساني واتفاقية الاتحاد الأوروبي مع تركيا حول اللاجئين، وهي الاتفاقية التي تحدد جزءاً مهماً من شكل انخراط الاتحاد الأوروبي في الملف السوري، وتحمل وجهاً آخر من أوجه تبادل الرسائل في الخلافات العالقة بين الجانبين حول ملفاتٍ عدة، منها أذربيجان، وليبيا، ودعم وحدات حماية الشعب من جانب فرنسا.
تتشابك الأحداث التي جهزت الأرضية لحدوث دعوة فرنسية من أعلى الهرم السياسي الفرنسي، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض، سواءً كانت الزيارة التي قام بها رئيس إقليم كردستان العراق، لفرنسا، والدعوة الفرنسية جاءت بعد ظهور أنباء عن وجود رغبة لدى رئاسة الإقليم بالقيام بزيارة لشمال شرق سوريا، إلا أنه يظهر توقفها لوجود موانع كثيرة منها التوازنات الإقليمية التي تحكم تموضع أربيل في الملف السياسي السوري العام والكوردي السوري الخاص، كما إنها تمثل عودة للدبلوماسية الفرنسية للانخراط في ملف المفاوضات والحوارات الكُردية المتعثرة، وهي التي بنُيت بالأساس على مبادرة فرنسية خلال عامي 2018 و2019، ولم تتمكن من الوصول لصيغة توافق بين الطرفين، كما لا يمكن فصل الدعوة الفرنسية عن وجود رغبة لدى باريس باستخدام كافة الأوراق التي تمتلكها في الإقليم لتقوية تموضعها في مواجهة السياسة التركية الخارجية، بالمحصلة فإن دعوة قصر الإليزيه لوفدٍ من شمال شرق سوريا وعلى أهميته، في المرحلة الحالية نظراً لتعثر الحوارات الكُردية، تفتح الباب أمام جملةٍ من الاحتمالات التي تتعلق بما يمكن أن يتم البناء عليه فيما يخص مصير العملية الحوارية بين الأطراف الكُردية، بالإضافة إلى كيفية إدارة هذه الأطراف لعلاقات الدبلوماسية الخارجية في بيئة سياسية تحكمها المصالح المتقلبة والتوترات المتزايدة.
ولكون أن الدعوة الفرنسية لاتزال في طور النقاش ضمن أروقة المجلس الوطني الكُردي فقد ظهرت عدة معوقات حتى الآن دفعت المجلس الوطني الكُردي برفض الدعوة في حال لم يتم حلها وتتمحور هذه المعوقات حول؛
إرسال الدعوة إلى المدعوين على اعتبارهم ضمن الإدارة الذاتية، (وهو ما تم تجاوزه عبر جعل الدعوة لممثلي شمال شرق سوريا).
عدم وضوح آليات اختيار الشخصيات المدعوة لقصر الإليزيه.
غياب التوازن في عدد المدعوين حيث إن غالبيتهم من طرف الإدارة الذاتية،
وجود فقط دعوة لشخصٍ واحد ممثلاً عن المجلس الوطني الكوردي.
عدم توضيح أجندة وبرنامج الاجتماع ضمن الدعوة المرسلة لهم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت