من المبكر الجزم بالمدى الزمني الذي ستأخذه قرارات إغلاق المعابر بين الكيانَين الكرديَين الوحيدين في المنطقة. إذ سبق أن استُخدم تكتيك إغلاق المعابر مؤقتاً، بين الطرفين، مرات عديدة، خلال السنوات الثماني الماضية. وكان الطرفان، في كل مرة، يدركان قيمة تلك المعابر في تعزيز مصالحهما، سواء كانت تلك الداخلية، والاقتصادية منها بالدرجة الأولى، أو تلك العابرة للحدود. لكن قد يكون للإغلاق، هذه المرة، خصوصية، نظراً لتصعيد التعاون التركي – الروسي، الهادف إلى استهداف تجربة الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا، الأمر الذي يُنذر، إن طال أمد إغلاق المعابر، بأزمة اقتصادية، ومالية بصورة خاصة، تطاول مؤسسات الإدارة الذاتية في منطقة “شرق الفرات”.
وتتردد بعض التعليقات بين العامّة، تقلل من آثار إغلاق المعابر على الحياة المعيشية لغالبية سكان “شرق الفرات”، وذلك عبر منصات في وسائل التواصل الاجتماعي. إذ تنحصر الآثار المباشرة، والتي ستظهر سريعاً، في ندرة مادة السكر بالأسواق، وارتفاع أسعار البنزين والمازوت المستورد (المكرّر في مصافٍ نفطية)، والذي تشتريه شريحة محدودة من سكان المنطقة، من ذوي الملاءة المالية، فيما تعتمد غالبية السكان، من محدودي الدخل، على النفط المكرر محلياً، بطرق بدائية.
لكن الآثار المباشرة والسريعة، لا تنحصر في البعد الاقتصادي المحدود، المشار إليه أعلاه. إذ أنها تطاول شريحة كبيرة، من سكان “شرق الفرات”، والتي تستخدم معبر “سيمالكا – فشخابور”، للعبور من “إقليم كردستان العراق”، إلى خارج الأراضي السورية، بدلاً من المرور عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام. وإذا تجاهلنا هذا الأثر المباشر والسريع، تبقى الآثار الاقتصادية متوسطة المدى، والتي تعني – في حال طال أمد إغلاق المعابر- خسارة مصدر رئيس للمستوردات التي تحتاجها “شرق الفرات”، وسط ما يشبه الحصار، تفرضه من جهة، سلطات النظام السوري، وتفرضه من جهة أخرى، تركيا والفصائل المعارضة المدعومة من جانبها، بصورة تجعل معبَرَي “سيمالكا – فشخابور”، و”الوليد”، اللذين يربطان “كردستان العراق” بـ “شرق الفرات”، المتنفس التجاري الرئيس للمنطقة الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية، بشمال شرق سوريا.
إذ تستورد الإدارة الذاتية مواداً غذائية كثيرة، إلى جانب الحديد والإسمنت والأسمدة، من إقليم “كردستان العراق”. وفي حال استمرار إغلاق المعابر، فهذا يعني أن أسعار تلك السلع ستحلق في أسواق “شرق الفرات”، ذاك أن البدائل من مناطق سيطرة النظام السوري، غير متاحة أو أقل جودة وأغلى سعراً، بسبب القيود التي يفرضها النظام على حركة البضائع، إلى الشرق السوري. ناهيك عن أن حالة الحصار التي استكملتها حكومة “كردستان العراق” بإغلاق المعبَرَين، تمثل مصلحة للنظام المدعوم روسياً، للضغط على سلطات الإدارة الذاتية الكردية، كي تقدم تنازلات أكبر في ملف الاندماج مع النظام تحت سلطة الأسد.
وقد يكون أكبر ضرر مؤثر على مؤسسات الإدارة الذاتية، في حال استمرار إغلاق المعابر، هو تضاؤل إيراداتها الناجمة بصورة رئيسية عن تصدير النفط إلى “كردستان العراق”. فالأخير بات في السنوات الأخيرة سوقاً للنفط الخام المُصدّر من “شرق الفرات”، ومصدراً للنفط “المكرر بطرق نظامية”. وتذهب تقديرات إلى أن الإدارة الذاتية كانت تصدّر يومياً ما يعادل 30 ألف برميل نفط إلى “كردستان العراق”، بأسعار أقل بكثير من السعر العالمي. وإن كان من الصعب الجزم بصحة تلك التقديرات، لانتفاء المصادر الرسمية، إلا أن انتعاش تجارة النفط بين الطرفين، في السنوات الأخيرة، تؤكد أن تصدير النفط الخام من “شرق الفرات” إلى “كردستان العراق”، يشكل مورداً مالياً مهماً للإدارة الذاتية بشمال شرق سوريا. ومع إغلاق المعابر، بات المستورد الرئيس للنفط الخام من “شرق الفرات”، هو النظام السوري، عبر شاحنات آل قاطرجي. مما يعني، أن الإدارة الذاتية ستصبح خاضعة أكثر لشروط النظام في تصدير النفط الخام، واستيراد النفط المكرر بطرق نظامية. مما سيضعف الخيارات السياسية للإدارة، أيضاً، وليس فقط، مصادر تمويلها.
لكن، ومقابل ما سبق، ورغم أن الحركة التجارية للسلع والنفط، عبر المعبَرَين المُغلقَين، تفيد الإدارة الذاتية الكردية، بصورة أكبر مما تفيد حكومة “كردستان العراق”. إلا أن الأخيرة تدرك قيمة النفط الخام القادم من سوريا، والذي تحصل عليه بسعرٍ بخسٍ للغاية. ووفق دراسة، نشرها مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، في تموز/يوليو الفائت، تبيع الإدارة الذاتية النفط الخام لـ “كردستان العراق”، بسعر لا يتجاوز الـ 60 دولاراً للطن الواحد. أي أن الإدارة تبيع برميل النفط بأقل من 10 دولارات، فيما سعره العالمي 7 أضعاف هذا الرقم. وبطبيعة الحال، يرتبط ذلك بكونها لا تتمتع بصفة قانونية –دولية-، تسمح لها ببيع النفط السوري عبر الحدود. وهكذا يشكل النفط الخام القادم من سوريا، غنيمة نوعية للاقتصاد في “كردستان العراق”، إذ يعيد التجار بيعه للمصافي هناك، بأسعار تقل عن نصف السعر العالمي. وتعيد مصافي المنطقة تصديره لـ “شرق الفرات”، وقوداً مكرراً، لكن بسعر أعلى بكثير.
وإلى جانب المكسب النوعي من تجارة النفط، لا بدّ أن حكومة “كردستان العراق”، تقدّر أيضاً، أن استمرار قرارها بإغلاق المعبَرَين مع “شرق الفرات”، سيفيد خصمها، حزب العمال الكردستاني. فالأخير، قد يناسبه إغلاق المعبَرَين في تعزيز حركة التهريب قرب معبر “الفاو” غير الرسمي، والذي سيكون السبيل الوحيد لتجار “شرق الفرات” لاستيراد السلع التي يحتاجونها من “كردستان العراق”. وكما هو معلوم، فميليشيا موالية لحزب العمال، هي التي كانت السبب الرئيس في تفاعل أزمة المعابر، حينما اعتدت على موظفين عراقيين “كُرد” في معبر “فشخابور”، قبل أسبوع. الأمر الذي يؤكد أن حزب العمال الكردستاني، يريد تصعيد الموقف مع خصمه اللدود، الديمقراطي الكردستاني، الذي يدير الحكم الذاتي للكُرد بشمال العراق. وبعيداً عن الخوض في أسباب وخلفيات هذا التصعيد، فإن نتائجه الاقتصادية تحديداً، ليست في صالح الإدارة الذاتية الكردية، بالدرجة الأولى. كما أنها ليست في صالح حكومة “كردستان العراق”، على المدى البعيد. لذلك، كما سبق وأشرنا في المقدمة، كانت قرارات الطرفين بإغلاق المعابر بينهما، تُطوى سريعاً، على مدى السنوات الفائتة.
لكن ماذا لو ذهبت “كردستان العراق” بعيداً في قرارها بإغلاق المعابر، بضغطٍ تركي؟ ستكون النتيجة على المدى البعيد، المزيد من خنق الإدارة الذاتية الكردية، لصالح الأجندات الروسية – الأسدية، المتوافقة مع الأجندة التركية بهذا الخصوص، وبصورة ستضعف العنصر “الكردي –السوري”، داخل الإدارة، والذي يحاول جاهداً إبقاءها على قيد الحياة، لصالح العنصر “الكردي – التركي” متمثلاً بصقور حزب العمال، داخل الإدارة، والذي يميل بقوة إلى الأجندات الروسية – الأسدية. أما العنصر الغائب حتى الآن، والقادر على تعديل الكفّة سريعاً، هو الأمريكي، الذي يستطيع الضغط على حليفيه الكُرديَين، في “كردستان العراق”، والإدارة الذاتية، لإنهاء التصعيد بينهما، إنقاذاً لتجربة الحكم الذاتي بشمال شرق سوريا. ويبقى التدخل الأمريكي في هذه الحالة، رهناً بما يدور وراء الكواليس، على خطوط الحوار مع موسكو وطهران وأنقرة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت