درعا ومخاطر الاقتتال الأهلي
ثمّة نذر خطر بدأت تحوم فوق درعا، ويبدو أن يد نظام الأسد عبثت عميقا في شبكة العلاقات العائلية، وأخذت بالتلاعب بمظلّة التلاحم الأهلي التي حمت المجتمع المحلي، في السنوات السود التي عاشتها المحافظة التي تئن تحت ضغط النظام ومليشيات إيران وعسكر بوتين ومخابراته.
حتى قبل استعادة سيطرته عليها، كانت مسألة اللعب على التوازنات العشائرية في درعا، من أهم أدوات النظام لإخضاع المحافظة نهائيا، والتخلص من الصداع الذي تشكّله له، وهي التي لم تفلح أدواته العسكرية الخشنة في إخضاعها، كما لم تفلح أدواته الناعمة المتمثلة باختراق عشائر المحافظة عبر توريط بعض أبنائها في أعماله العسكرية وتجارة المخدّرات وسواهما.
منذ زمن بعيد، استخدم نظام الأسد مورد الوظائف “المناصب” بغرض جذب عشائر (العشيرة في درعا تسمّى الحمولة) درعا إلى جانبه، استهدف العشائر (الحمايل) الكبيرة في الحجم، والتي تمتلك شبكات علاقات واسعة، والمؤثرة في مجالها. لذا كان على الدوام هناك أشخاص من حمايل “المسالمة والأبازيد والبجبوج والحريري والشرع والزعبي والمصري .. وغيرهم”، ضمن هياكل السلطة، وأحيانا في مناصب مهمة.
اعتاد النظام منح وجهاء بعض عشائر درعا مساحة من المونة، وخصوصا في التوسّط لدى أجهزة النظام ومؤسّساته، وكان حزب البعث طريق أبناء درعا للوصول إلى السلطة والحصول على مزايا معينة، لذا كان ملاك درعا من الأعضاء العاملين في الحزب هو الأكبر حجما في سورية، وربما شكّل ذلك سرّ مفاجأة نظام الأسد من انطلاق الثورة من درعا، التي كان يعدّها أحد حواضنه في سورية، بل إن كثيرين من أركان النظام وصفوا فعل أهالي درعا بـ”الخيانة”.
كانت مهمّة اقتلاع أدوات الأسد من محافظة درعا صعبة ومعقدة، ليس بسبب كثرة هؤلاء، ففي أثناء الثورة رجّحت بما لا يقاس، نسبة المنضمّين لها، لكن نتيجة حماية العشائر لأبنائها، ووضعها ما يشبه الحدود على الاقتراب منهم، وسيشكّل هؤلاء “خلايا نائمة”، بانتظار تغير الأحوال في المحافظة.
لدى عودة النظام إلى درعا، كان الجزء الأكبر من أتباعه قد اختفى، وما بقي لا يكفي لتثبيت السيطرة وإخضاع المحافظة. لذا جرى الاعتماد على خليط من العناصر السابقة في الفصائل، أو ما سمّيت “عناصر التسويات”، غير أن هؤلاء وحدهم لم يكونوا كافين لتأمين سيطرته، كما لم يكن أغلبهم قادر على نسيان كرههم النظام وأركانه، وبالتالي فإن انخراطهم ضمن هياكله العسكرية والأمنية كانت تقف خلفه أسباب عديدة غير القناعة والإخلاص، مثل الظروف الاقتصادية وتجنّب الملاحقات الأمنية.
كشف النظام حدود سيطرته على درعا، وأدرك انه بحاجة إلى أنماط جديدة من التعاطي مع الأوضاع فيها، وبدت أهمية ورقة “داعش”، وهو يعلم أن هذه الورقة حمّالة تداعيات أخرى، إذ لا يوجد من الناحية العملية هيكل تنظيمي لـ”داعش” في درعا، في الوقت الراهن، وإنما مجرّد أشخاص منفردين يحرّكهم جهاز الأمن العسكري في درعا، الأمر الذي يذكّرنا ببدايات إدخال المتطرّفين إلى الثورة السورية، عبر مزيج من الملاحقة لأشخاصٍ أخرجهم النظام من سجونه، وتشغيل لبعضهم في الباطن، وجزء منهم أصحاب سوابق جنائية، غير أن هؤلاء، في الوضع الحالي في درعا، ينتمون في المحصلة للطيف العشائري.
تتمثّل الإشكالية الحاصلة في درعا اليوم بأن جزءا من رافضي سلطة النظام والمتمردين عليه ليسوا محسوبين على الفصائل التي قامت بالتسوية، ولا جزءا من الذين رفضوها وظلوا ضمن أطر معينة، لأسبابٍ ربما تكون عشائرية في بعضها، في ظل مساعي النظام التلاعب بالتوازن العشائري ومحاولته تقريب جانب ومنحه بعض المزايا وتهميش طرفٍ آخر، وهي وسائل معلوم أن الغرض منها ضرب العشائر ببعضها، ودفعها، بالتالي، إلى اللجوء للنظام، إما لحمايتها، أو للتحكيم بينها وبين الطرف المحلي الآخر. باختصار، عملية فرز قسرية وتحطيم للنسيج الاجتماعي.
وفي ظل هذه الأوضاع، تُحسب الأوزان العشائرية بحجم الأسلحة التي تملكها وعدد مقاتليها، وهي أمور من شأنها التأثير على قدرتها وعلى مكانتها في بيئتها، لذا تجد العشائر نفسها مضطرّة للوقوف ضد أي طرفٍ يقتل أبناءها، أيا كان انتماؤهم وتبعيّتهم، وستجد نفسها مضطرّة للانخراط في صراعاتٍ، الهدف منها الحفاظ على مركز قوتها، إذ لن يجري النظر إلى هذه الصراعات إلا من زاوية صناعة معادلات جديدة في المحافظة لصالح بعض الأطراف، وعلى حساب بعضها الآخر.
المشكلة في درعا كثرة الفاعلين، أجهزة أمنية ومليشياوية، وجهات محسوبة على إيران وحزب الله، وفصائل عديدة، وثمّة مصالح متغيّرة وتحالفات مؤقتة، ووجود تشابك هائل بين الفاعلين، وتقاطعات هنا وهناك. وتحتاج مثل هذه الخريطة المعقّدة لاعبا مركزيا يديرها باحترافية ويوجّهها صوب أهداف محدًدة، ولا يملك الطرف الأهلي الذي يبدو أنه أضعف أطراف هذه اللعبة جهة تدير هذه التفاعلات وتتحكّم بها، بعد حل اللجنة المركزية نفسها، وعدم فعالية الوجهاء، الواقعين تحت تأثير انحيازاتهم العشائرية، وهو ما يجعل الأوضاع تقيم على حافّة المخاطر.
درعا في خطر، وسلمها الأهلي تعبث به يد عصابة الأسد، والحرب الأهلية فيها ستكون فرصة لنظام الأسد للسيطرة على المحافظة، وقد تكون وسيلته لإسكات الأردن الذي سيتأثر حكماً بالاقتتال الأهلي في درعا، بالنظر إلى أن شماله ينطوي على التركيبة العشائرية نفسها في درعا، ووجود أعداد كبيرة من أبناء عشائر درعا لاجئين في المدن الأردنية، فالاقتتال الأهلي سيجعل من تجارة المخدّرات تزدهر بدرجة كبيرة، وسيزعم نظام الأسد أنه بريء منها، وأنها من صنع هؤلاء الخارجين عن القانون.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت