حمل هذا الأسبوع تطورين ملحوظين في الموقف التركي في سوريا. الأول تمثل بالهجمات الواسعة التي شنّها الجيش التركي على مواقع لوحدات حماية الشعب الكردية الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني في شمال غربي سوريا. أما الثاني، فتمثل بإعلان روسيا عن اجتماع جديد لنواب وزراء خارجية كل من تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران هذا الشهر. في حين أن العمليات العسكرية التركية الجديدة ضد الوحدات الكردية كانت رد فعل متوقعا على الهجوم الذي تعرض له مركز أمني تركي في ولاية كيليس الحدودية الأسبوع الماضي، إلا أنّها تكتسب أهمية على صعيد المسار الأمني الذي ستسلكه السياسة التركية في سوريا بعد الانتخابات التركية، وهي تُشير إلى أن الاستراتيجية التركية في سوريا في الفترة المقبلة ستُركّز بشكل أساسي على مقاربة ملف الوحدات الكردية من منظور أمني بمعزل عن التحولات التي طرأت على السياسة التركية بعد شروع أنقرة في مفاوضات مع النظام برعاية روسية.
حقيقة أن العمليات التركية الجديدة استهدفت مناطق خاضعة لنفوذ روسيا (منبج وتل رفعت) تُعطي مؤشراً على أن موقف موسكو تجاه التحركات العسكرية التركية ضد الوحدات الكردية أصبح أكثر مرونة بعد انفتاح أنقرة على الحوار مع النظام. لا يعني ذلك أن روسيا أصبحت تتبنى بالكامل موقف تركيا في صراعها مع الوحدات الكردية، إلا أن هذه المرونة تعكس أمرين أساسيين. الأول أن موسكو حريصة على إظهار حساسية تجاه الهواجس الأمنية التركية من أجل حث أنقرة على المضي قدماً في الحوار مع النظام السوري خصوصاً في فترة ما بعد الانتخابات التركية لا سيما أن الرئيس رجب طيب أردوغان تخلص من ضغط الانتخابات الذي فَرض عليه في الفترة الماضية إظهار رغبة غير محدودة في الحوار مع النظام. لا يعني ذلك أن تركيا لم تعد راغبة في مواصلة الحوار مع النظام ضمن الآلية الرباعية، لكنّها أصبحت في موقف أفضل لفرض شروطها على النظام وحلفائها في أي تسوية محتملة بخصوص العلاقات التركية السورية. أما الأمر الثاني، فهو أن موسكو تسعى لتوظيف عودة الضغط العسكري التركي على الوحدات الكردية من أجل دفعها إلى التفكير في مزايا التفاوض مع النظام حول مستقبل المناطق التي تُديرها الوحدات، بدلاً من مواصلة رهانها على الولايات المتحدة التي تراجع تأثيرها في المعادلة السورية إلى حد كبير.
إن عودة التركيز العسكري التركي على منطقتي منبج وتل رفعت يهدف أيضاً إلى إرسال رسالة إلى روسيا بضرورة تنفيذ الالتزامات التي قدمتها لأنقرة في اتفاق سوتشي لعام 2019 بخصوص إخراج الوحدات من هذه المناطق والعمل على إبعادها عن الحدود التركية بعمق ثلاثين كيلومتراً ونزع سلاحها. في حين أن تنفيذ بنود هذه الاتفاقية واجه عقبات عديدة خلال السنوات الماضية في ظل الاتهامات المتبادلة بين أنقرة وموسكو بعدم تنفيذ بنود الاتفاقية كاملة، إلا أن الوضع الجديد الذي أحدثه التحول التركي في الموقف تجاه النظام قد يُساعد في تجاوز هذه العقبات. مع ذلك، فإن هامش الضغط المتاح لروسيا على الوحدات الكردية يبقى محصوراً في منطقة غرب الفرات لأن الولايات المتحدة لا تزال فاعلاً مهماً في معادلة شرق الفرات وتحتفظ بوجود عسكري في تلك المنطقة يُساعد الوحدات الكردية في الموازنة بين تعاونها مع روسيا وبين الاستفادة من التأثير الأميركي المتبقي في المعادلة السورية لعدم رمي كل أوراقها بيد موسكو والنظام. علاوة على ذلك، فإن روسيا لم تعد قلقة من العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا مقارنة بالفترة السابقة لأن أنقرة لم تعد تُبدي رغبة بالسيطرة المباشرة على المناطق التي تُريد إخراج الوحدات الكردية منها خصوصاً في تل رفعت ومنبج.
سيُشكل الاجتماع الرباعي المقبل لنواب وزراء الخارجية فرصة لاختبار قدرة الآلية الرباعية على نقل العلاقات بين تركيا والنظام إلى مستوى جديد. لأن النظام السوري وروسيا وإيران يُدركون أن أنقرة ستتشدد في موقفها الجديد في سوريا بدرجة أكبر بعد الانتخابات التركية، فإن الآلية الرباعية ستُركز على إتمام خريطة الطريق لإعادة إصلاح العلاقات التركية السورية. ستُحاول تركيا توظيف الضغط العسكري الجديد ضد الوحدات الكردية من أجل دفع النظام وحلفائه إلى تحقيق مطالبها بخصوص إخراج الوحدات الكردية من منبج وتل رفعت، كمقدمة لتعاون أمني أوسع بين أنقرة ودمشق. لذلك، من المرجح أن تتصاعد وتيرة العمليات التركية ضد قسد في الفترة المقبلة بالتوازي مع مواصلة عمل اللجنة الرباعية. رغم الشراكة المتينة التي بنتها تركيا وروسيا في سوريا في السنوات الماضية، إلا أن أنقرة تُدرك أن الحفاظ على زخم استراتيجيتها الأمنية في صراعها مع الوحدات الكردية هو السبيل الوحيد لدفع موسكو إلى التعامل بحساسية أكبر مع هواجسها الأمنية في سوريا.
من المثير للاهتمام في خضم التصعيد الجديد بين تركيا والوحدات الكردية إعلان حزب العمال الكردستاني وقف الهدنة المزعومة التي أعلنها قبل الانتخابات التركية، ما يعكس الديناميكية الإقليمية الأوسع للصراع بين تركيا والتنظيمات الكردية المسلحة في كل من شمالي سوريا والعراق. بينما يبدو مسار هذا الصراع أقل تأثيراً بالتحولات الجديدة في موقف تركيا في سوريا، إلا أن المفاوضات بين تركيا والنظام تحد من الهامش المتاح أمام الوحدات الكردية التي سعت خلال السنوات الماضية لتوظيف الصراع بين تركيا والنظام من أجل تعزيز موقفها في معادلة الصراع على الشمال السوري.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت