يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريق عودته من جولة البلقان قبل أيام “جهودنا ضد التنظيمات الإرهابية ضمانة لوحدة سوريا وسلامة أراضيها، لكن النظام لم يتخذ موقفا تجاه تلك التنظيمات”. المعني هنا هو “قوات سوريا الديمقراطية” الجناح العسكري لحزب “الاتحاد الديمقراطي”، الامتدادي لحزب “العمال الكردستاني” المصنف إرهابيا في معظم دول العالم. أردوغان يشير ربما إلى المناورات العسكرية الثلاثية التي نفذتها القوات الروسية بالتنسيق مع قوات النظام بمشاركة مجموعات قسد في مطلع الشهر المنصرم في منطقة منبج وفي ظل تلويح تركيا بعملية عسكرية خامسة تستهدف القوات الكردية في الشمال الشرقي لسوريا.
توترت العلاقات التركية اليونانية في الآونة الأخيرة وبدأ الحديث عن احتمالات وقوع مواجهة عسكرية بين البلدين في بحر إيجه وشرق المتوسط على مرأى ومسمع حلفاء البلدين في الغرب وأميركا تحديدا. لكن ضباط وجنود الولايات المتحدة الأميركية كانت عندهم أولوية أخرى هي إنجاز المناورات العسكرية المشتركة مع وحدات “قوات سوريا الديمقراطية” على مقربة من تقاطع الحدود التركية السورية العراقية تحت غطاء قوات التحالف الدولي وفي إطار تدريبات بالقرب من المثلث الحدودي السوري – التركي – العراقي بالذخيرة الحية استُخدمت فيها صواريخ “تاو” وقذائف “آر بي جي” و”الكلاشنكوف”، إلى جانب المصفحات والمدرعات العسكرية الأميركية. أردوغان يتحدث عن هذه المناورات أيضا.
مشكلة الرئيس التركي هنا هي أنه يوجه رسائله لواشنطن وموسكو على السواء، حيث هذا التنسيق مع قسد يتم مرة تحت غطاء الدفاع عن الأراضي السورية برعاية روسية ومرة أخرى بإشراف أميركي تحت مظلة محاربة تنظيم داعش. انتقال مبعوث وزارة الخارجية الأميركية الخاص إلى سوريا، نيكولاس غرينجر، على عجل إلى المنطقة واجتماعه بقيادات “الإدارة الذاتية” لشمالي وشرقي سوريا، هدفه طمأنة الحليف المحلي أن أميركا لن تتركهم وحدهم ربما، لكن الهدف الأهم هو إعلان واشنطن تمسكها برفض أي تحرك عسكري تركي جديد في منطقة انتشار العديد من السجون ومراكز الاحتجاز الخاصة بعناصر تنظيم داعش الإرهابي محذرة من تعريض ملف الحرب على هذه المجموعات في شرق الفرات والحسكة للخطر.
موسكو من ناحيتها لا تريد التخلي عن الورقة الكردية في سوريا بمثل هذه البساطة لصالح واشنطن التي تنفذ مناورات مع قسد بمشاركة قوات أميركية كانت تستعد للمغادرة فبدلت موقفها عندما وجدت القوات الروسية تعد لإنشاء قاعدة عسكرية جديدة في ريف الحسكة. تعارض أميركا العملية العسكرية التركية ضد حليفها المحلي في سوريا، لكنها تذهب ميدانيا وسياسيا إلى أبعد من ذلك في رسائل علنية توجهها لأنقرة كان بينها تسيير الدوريات في محيط مدينة القامشلي عقب قصف مدفعي تركي على مقربة من المدينة. سباق أميركي روسي متواصل على كسب قسد وأنقرة تطالب النظام في دمشق بحسم موقفه في الحرب على الإرهاب وتتمسك بعمليتها العسكرية لإبعاد وحدات الحماية الكردية عن حدودها الجنوبية وإنجاز مشروع المنطقة الآمنة لتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين إليها.
فمن الذي يحصل على ما يريد؟ وما هو المتوقع؟
أشرف العشرات من الضباط والجنود الأميركيين على تدريب وتجهيز الآلاف من عناصر قسد و”وحدات الحماية” منذ العام 2015 وحتى اليوم تحت غطاء “التحالف الدولي” في الحرب على تنظيم داعش، وزودتهم واشنطن بمئات الأطنان من السلاح والذخيرة رغم انعدام وجود أي نشاط حقيقي لهذه المجموعات في المنطقة. هدف واشنطن هو غير ذلك إذا: إبقاء ورقة داعش بيدها عبر تثبيت وجود السجون ومراكز الاعتقال الموجودة في المنطقة والحؤول دون المطالبة بإنهاء هذه المسألة. واستخدام ملف “قوات سوريا الديمقراطية” عند الضرورة في مواجهة اللاعبين المحليين والإقليميين المؤثرين في سوريا. ومحاصرة أنقرة بالملف الكردي بشقه الإقليمي تماما كما حاولت أن تفعل في شمالي العراق وجنوب شرقي تركيا منذ سنوات.
لا يمكن الفصل بعد الآن بين قناعة تركية بوجود محاولة أميركية واضحة لمحاصرة تركيا في أقصى شمال غربي البلاد عبر قواعد عسكرية أميركية في “دادا اغاش” منطقة الحدود التركية – اليونانية، وخطة مشابهة في أقصى جنوب شرقي تركيا في منطقة المالكية وتقاطع جزيرة ابن عمر، القريبة من مدينة القامشلي، حيث العديد من القرى والنواحي والبلدات، الواقعة في مثلث الحدود السورية – التركية – العراقية وحيث تنشىء أميركا تحصيناتها العسكرية الجديدة بالتنسيق مع قوات قسد في رسالة حول استبدال خطة المغادرة بالبقاء على ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية في التعامل مع الملف السوري وحرب النفوذ القائمة هناك.
أميركا قلقة من نتائج تفاهمات سوتشي الأخيرة بين الرئيسين التركي والروسي ولا تعرف الكثير عنها. وهي تريد أن تستعد لكافة الاحتمالات في ملفات التنسيق الثنائي والإقليمي التركي الروسي كي لا تفاجأ. انفتاحها على زيلينسكي وميتشوتاكيس لا يقل عن انفتاحها على قيادات وكوادر قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي البلاد. المقارنة صعبة ومستحيلة طبعا، وهي لن تضع الرجلين على مسافة واحدة مع قسد في ملفاتها الإقليمية، لكنها لن تفرط بمصالحها مع الفرقاء الثلاثة في مواجهة النفوذ الروسي والتركي.
كشف الكرملين عن تحضيرات تجري لتنظيم لقاء مرتقب بين الرئيس التركي والرئيس الروسي على هامش قمة شنغهاي المقررة في منتصف الشهر الحالي في أوزبكستان. رسائل الرئيس أردوغان الأخيرة إلى الغرب وانتقاداته لأسلوب التعامل مع ملفات إقليمية ودولية حساسة كانت تتطلب المزيد من التعقل والدراية بينها ملف الأزمة الأوكرانية تعكس حقيقة أن أردوغان لا يحتاج إلى أكثر من ذلك لإغضاب واشنطن وإقلاقها وهو يدافع عن روسيا “الدولة التي لا يمكن الاستخفاف بها”.
تمريرات طويلة في ساحة لعب ضيقة نتابعها في شمال شرقي سوريا بعد تلويح أنقرة بعمليتها العسكرية الجديدة منذ شهر أيار المنصرم. هناك سيناريوهات مواجهة وعملية خلط أوراق عسكرية وسياسية بين الأطراف تتغير يوميا. قسد تفتح الطريق أمام النظام بالتفاهم مع روسيا. ثم تعود وتتراجع عن هذا التنسيق أمام الضغوطات الأميركية التي تدفعها لانتقاد التمركز الروسي الجديد في القامشلي وجوارها الذي يهدد مصالحها. والنظام من جهته ينتظر الضوء الأخضر الروسي ليتحرك عسكريا باتجاه استرداد مناطق نفوذ قسد ويقطع الطريق على خطة التدخل العسكري التركي الجديد. والسخونة في ذروتها على فوهة البركان.
تتوجه الأنظار نحو حالة استنفار وتصعيد ميداني روسي – أميركي محتمل رغم صعوبة هذا الاحتمال. احتمال آخر هو وقوع صدام بين قوات النظام وقسد برز إلى العلن من جديد وربما هذا ما قصده أردوغان. الاحتمال الثالث هو تفاهم تركي روسي مع النظام لفتح الطريق أمام عملية عسكرية محدودة يتبعها تسريع الحوار بين أنقرة والنظام السوري خصوصا وأن هناك تسريبات إعلامية جديدة تتحدث عن لقاء جديد تم بين رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاقان فيدان ونظيره السوري علي مملوك بوساطة روسية. كل هذه السيناريوهات تناقش كما يبدو بانتظار الأنسب بينها. لكن الأوفر حظا هو تضييق الخناق على المشروع الأميركي وتقديم الحل الروسي التركي الذي قد يفتح الطريق أمام قوات النظام للتقدم باتجاه محاربة الإرهاب في شرق الفرات كما يطالب الرئيس التركي ويسقط ورقة قسد من يد واشنطن.
حصة تل أبيب دائما محمية سواء مع تفاهم اللاعبين الروسي والتركي أم مع اللاعب الأميركي. وهي التي تواصل غاراتها ضد المواقع والأهداف الإيرانية داخل الأراضي السورية وتقول إن ما تقوم به ليس خدمات مجانية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت