“سيباطات” وحمامات ومساجد عثمانية..جولة فيما تبقى من إدلب القديمة (صور)
منذ أن غادره قبل 15 عاماً، متجهاً إلى حيّ الجامعة الحديث، يأبى عبد الكريم دقسي (70 عاماً) أن يمر يوم دون أن يزور منزله في مدينة إدلب القديمة.
ويصر دقسي رغم تقدمه في العمر ومشقّة الوصول لبيته القديم، أن يبقى مواظباً على زيارة البيت القديم الكائن في “زقاق الزهر” العتيق وسط المدينة القديمة في إدلب، مسافة طويلة ليقضي 7 ساعات على الأقل هناك كروتين يومي، يدخّن، ويشرب الشاي ويسقي المزروعات.
وعلى الرغم من توغّل العُمران الحديث وتبدل معالم المدينة القديمة، ما زال كثير من سكّانها، يصارعون من أجل البقاء في منازلهم “العتيقة”، أو الحفاظ عليها كـ”تراث وهوية” مثل عبد الكريم.
وترتبط حالة التحديث لدى السكّان بشكل وثيق بالحالة المادية لمالكي المنازل القديمة، إذ إن غالبية العوائل التي آثرت البقاء ذات حالة مادية متواضعة، ولم تكن قادرة على الانتقال نحو منزل جديد في الأحياء الحديثة.
الرحيل عن المدينة
قرر عبد الكريم الانتقال إلى منزل جديد يتسع لعائلته التي بدأت تكبر، ولم يعد يستوعبها منزل صغير مكون من غرفتين فقط، وفي الوقتِ ذاته يعتبر أن انتقاله كان جزئياً، إذ يمضي وقتاً طويلاً في البيت القديم وحيداً.
يقول لـ”السورية.نت”: “ورثت المنزل عن أبي، وكان غرفة واحدة، وبعد زواجي أنشأت غرفة صغيرة لأسكن فيها، وعلى الرغم من انتقالي إلى منزل جديد في مدينة إدلب، أوصيت أولادي من بعدي، بعدم بيع البيت والإبقاء عليه ليكون مرتعاً لهم”.
ويضيف: “المنزل بالنسبة لي لا يحمل قيمة مادية، إنما معنوية، وهي كافية كي أحافظ عليه لما تبقّى من عمري”.
وحالة التعلق بالبيت القديم لدى عبد الكريم تثير شيئاً من الشجون في نفسه، إذ يقول لـ”السورية.نت” إن بيته القديم كان شاهداً على حقبة “فقر مدقع” عاشها في كنفِ والده، إلا أنّها “بسيطة ومحببة”، وترتبط بسجل ذكريات طويل.
أزقة المدينة القديمة
لا تبدو المدينةُ القديمة في إدلب كتلة واحدة متّصلة اليوم، بعد أن قطعت أوصالها، الحداثة من شوارع واسعة وأبنية طابقيّة وأسواق حديثة، على خلاف ما كانت عليه، وحدة متماسكة.
ويؤكد في هذا السياق، عبد الحميد مشلح وهو مؤرخ من أبناء المدينة القديمة، أنّ “الأحياء ليست متفرقة كما يظن البعض اليوم، فهي متصلة مع بعضها من خلال الأزقة والطرقات، وأول حي في المدينة هو حي الصليبة وثاني حي المحلة الشمالية وثالث محلة هي المحلة القبلية ورابع محلة هي الشرقية والخامسة هي الغربية”، مبيناً أنّ هذا الترتيب جاء بناءً على “الوثائق العثمانية”.
ويلفت في حديثه لـ”السورية.نت”، إلى أنّ “المدينة القديمة تمتد من جامع المبلّط شمالاً حتى مبنى مديرية التربية جنوباً ومن الثانوية الصناعية شرقاً وحتى سطوح المعصرة غربًا ومن الطبيعي أن يتداخل العمران الحديث مع القديم وهذا يحدث في كل المدن”.
ملامح المدينة
يعتبر ما تبقى من السيباطات (وهي سقيفة منزلية تصل بين جزئي المنزل أو غرفة ملتصقة بين دارين) والمساجد القديمة والحمّامات، إضافةً إلى المنازل الأثرية، هي آخر ما تبقى من ملامح المدينة القديمة التي يغلب على بنائها الطراز العثماني.
وهو ما يؤكده عبد الحميد مشلح، مبيناً أنّ أول حمام أثري في منطقة “الصليبة” بعد حمام “الصغيرة الملوكية الوحيدة”، بناه الصدر الأعظم محمد باشا الكوبرلي، وأكمل من بعده ولده الصدر الأعظم أحمد فاضل باشا الكوبرلي، وعلى نمطها تمّ بناء كافة حمامات إدلب، الباقية حتى يومنا هذا.
ومن الأماكن التي يمكن رصدها حتى اليوم، مساجد “الكبير والشيخ خليل والأقرعي والمبلّط”، وهي جميعها مبنية على الطراز العثماني.
ويوضح مشلح، أنّ “السيباطات في إدلب عشرة، تهدّم منها سيباط آل قريد في المحلة الغربية وسيباط آل الفتري في المحلة الجنوبية وسيباط آل البيطاء في المحلة الشمالية”، أما الباقية فهي سيباط آل جحا وسيباط وفي بركات وسيباط الدويدري في المحلة الجنوبية، وسيباط الكيالي قرب زقاق الجاموس وسيباط يحيى بك في المحلة الشمالية”.
ومن الواضح أنّ أسماء “السيباطات” تعود إلى كُنية مالكيها، ومتداولة شعبياً بين الناس على هذه التسميات.
أما الحمّامات الشعبية فهي عشرة، المهدوم منها “الصغيرة والذهب وسيريابا والميري”، والباقية “الهاشمية والمحمودية والصالحية والكبيرة والروضة والطاهرية”.
ويؤكد مشلح، أنّ حالة الهدم والاندثار لمعالم المدينة القديمة ستبقى مستمرة، بسبب مخطط المدينة الحديث، ولما حل منها من دمار نتيجة القصف أو قِدم المكان.
مكانس القش
وإلى جانب اندثارِ أجزاءٍ من معالم المدينة القديمة، فإن مهناً كانت رائجة فيها، تبدو في طريقها أيضاً نحو الضياع.
في مشغلٍ صغير، تحت الأرض بثلاث درجات، يصارع موفق أبو صبحي، من أجل الاستمرار بحرفةٍ تقليدية امتهنها قبل 30 عاماً، على يد والده، وهي صناعة “مكانش القش”، في ظل مشقة وصول المواد الأولية وغياب أسواق التصريف كما يقول.
أبو صبحي، القاطن في المدينة القديمة، رغم تبدل ملامح منزله، يشكو صعوبة تأمين المواد الأولية “أبرزها القصب والقش” لآخر الصناعات التقليدية الصامدة في مدينة إدلب القديمة، والتي كان مصدرها منطقة “الجزيرة السورية”.
يقول لـ”السورية.نت”، إنّ “أسواق التصريف تحولت من أسواق الخارج إلى سوق محلية لا تطلب الكثير، والمواد الأولية أيضاً صارت بسعر أعلى، ما أدى إلى ارتفاع سعر المكنسة الواحد لتسجل دولاراً واحداً”.
ويعتبر أن استمراره في المهنة، إحياءً لتراث شعبي وصناعة تقليدية على وشك الاندثار، إضافةً لكونها مصدر رزقٍ له ولعائلته.