تثير الشهادة التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في الأيام الأخيرة لخدمته الطويلة في وزارة الخارجية (2013 – 2021) اهتماما كبيرا، ليس لأنها تكشف جوانب ومعلومات غير معروفة (علمًا أن معلومات مهمة كشفت عنها)، بل لأسباب أخرى عديدة، يرتبط بعضها بملابسات تسريبها، وبعضها الآخر مرتبطٌ بأنها جاءت من مصدرها الأول، حيث تحدّث ظريف بمرارة عن تجربته، ومعاناته في التعامل مع السلطة الفعلية التي تدير سياسات ايران الخارجية والأمنية، خصوصا في المنطقة العربية، وأيضا لأن صاحبها أراد على ما يبدو أن يبرّئ ذمته مما يعتبره، مواربة، فشلا إيرانيا في السياسة الخارجية، أعاد البلاد إلى المربع الأول، بعد أن بذل هو (ظريف وفريقه) جهودا كبيرا في إخراجها من حال العزلة والحصار والتوتر التي طبعت علاقتها مع الغرب أربعة عقود، وهو خطابٌ يناقض تماما ما يصدر عادة عن طهران من إبراز لنجاحاتها.
لا نعرف كثيرا عن ملابسات تسريب الشهادة التي كان المقصود بها، أو في جزء منها على الأقل، أن تبقى سرّية، لذلك سنتجاوزها. ما يستحق التركيز عليه هنا هو توضيح الشهادة لطبيعة العلاقة بين السلطات الرسمية في إيران، والمقصود بها الحكومة “المنتخبة” من الشعب، وبنية الدولة الموازية، والمقصود بها المؤسسة الأمنية والعسكرية، وفي مقدمتها الحرس الثوري، وفي قلبه فيلق القدس.
يكشف ظريف، في هذه المقابلة، أن دوره لا يعد كونه مُسوّقا (Salesman) لسياسات وقرارات لا يد له فيها، أو لا يعلم كثيرا عنها. وقد جاء صادمًا قوله إن دوره في السياسة الخارجية للبلاد هو “صفر”. في أحيان أخرى كثيرة، لم يكن لدى ظريف أدنى معرفة بقراراتٍ على مستوى كبير من الأهمية، فهو لم يكن يعرف، مثلاً، بقرار ضرب قاعدة “عين الأسد” في العراق ردًا على اغتيال قاسم سليماني. يقول: “هل تعلمون أن أميركا علمت بالهجوم على قاعدة عين الأسد قبل أن أسمع به أنا؟”، ويستطرد: “لقد سمعت بالهجوم على القاعدة بعد ساعتين من إبلاغ رئيس الوزراء العراقي بذلك”. أما عن استقالته التي جاءت احتجاجًا على عدم اطلاعه على زيارة بشار الأسد إلى طهران عام 2018، فيقول: “علمت بوجود الأسد في طهران من شاشة التلفزيون”. وعن أكثر المواقف إحراجا بالنسبة له، يقول ظريف إنه ظل ثلاثة أيام لم يخبره خلالها أحد أن الطائرة الأوكرانية تم إسقاطها عن طريق الخطأ بعد أن ظنتها الدفاعات الإيرانية صاروخا أميركيا أطلق ردًا على قصف إيران قاعدة عين الأسد. ويضيف أنه طلب في اجتماع مجلس الأمن القومي، بعد ثلاثة أيام على كارثة الطائرة، إخباره بما إذا تم إسقاطها بصاروخ. “انظروا، أنا وزير الخارجية، ومن المفترض أن أبرّر ذلك”. لكن الحاضرين نفوا الأمر بشدة، وطلبوا منه نفيه على حسابه في “تويتر”، وهو ما فعله، وتسبب له بإحراج كبير.
الأسوأ بالنسبة لظريف أن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، كان يُطلعه خلال اجتماعه به على أمور عن بلاده لا يعرفها هو، فقد أخبره كيري مرة أن إسرائيل ضربت مائتي هدف إيراني في سورية حتى عام 2016. كما أخبره أن الخطوط الجوية الإيرانية ضاعفت رحلاتها الى سورية ست مرات بعد رفع العقوبات عنها في إشارة الى استخدامات غير مدنية للناقل الوطني الإيراني، وقد نفى ظريف ذلك، ليتبيّن له صحة الأمر، عندما سأل عنه بعد عودته إلى طهران.
يشرح ظريف أيضا كيف أن سليماني كان يملي عليه ما يفعل، ويستخدمه لتبرير أو تجميل تحرّكاته العسكرية والأمنية على الأرض. يقول ظريف: “كان سليماني يفرض شروطه عند ذهابي إلى أي تفاوض مع الآخرين بشأن سورية، وأنا لم أتمكن من إقناعه في أي مرة برأيي”. طلبت منه مثلاً عدم استخدام الطيران المدني في سورية لكنه رفض. واشتكى ظريف أخيرا من أن ليس لديه أي سلطة على التعيينات في وزارته، فأغلب التعيينات سواء داخل الوزارة أو بخصوص سفراء إيران في الخارج تصدر عن جهات أمنية، يقول: “إن معظم هيكل وزرارة خارجيتنا شأن أمني”.
لن تغير شهادة ظريف على الأرجح شيئًا في طهران، لكنها تفتح لنا نافذةً مهمةً تساعد في فهم كيفية صنع السياسة الخارجية في كواليس السلطة الإيرانية، وهذا بحد ذاته يجعلها جديرة بالاهتمام.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت