أكثر من شهر على اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الأسد في السويداء، ولا تزال الكثير من الأسئلة تنتظر إجابات بشأن السيناريو المتوقع لهذا الحراك، والأدوات التي يملكها رئيس النظام بشار الأسد لإنهائه، فضلاً عن تساؤلات أخرى تتعلق بطريقة تعاطي النظام مع الاحتجاجات.
“الصبر الاستراتيجي” و”ازدواجية التعامل” كانا العنوان الرئيسي الذي يوصّف سياسة الأسد في التعامل مع حراك السويداء، وفقاً لمحللين، رأوا أن الاستمرار بهذا الصمت مرهون بمتغيرات عدة، قد يكون ملل المحتجّين أبرزها، إلى جانب عامل السلاح الذي قد يكون العلامة الفارقة بتعاطي النظام مع الاحتجاجات، رغم الدعوات لإبقاء الحراك سلمياً.
لكن وبالعودة إلى العام الماضي، نرى أن الأسد اتبع هذا العام سياسة مغايرة مع السويداء نفسها، التي ثارت مرتين ضد نظام حكمه عام 2022.
ففي السابق عمل الأسد على كسب مشايخ العقل لصفّه لما لهم من تأثير فعّال على أبناء المنطقة، في حين لم يقدم أي مبادرة جديّة هذا العام، بسبب اختلاف موقف المشايخ تجاه نظامه.
ومع ذلك، كان صمت الأسد موضع تساؤل كونه اتبع سياسة مختلفة كلياً مع باقي المناطق السورية التي ثارت ضده، حيث اتسمت سياسته بـ”القمع” و”العنف”.
“صبر استراتيجي” أم توخي للحذر؟
يرى محللون أنه بالرغم من سياسة “القمع” التي اتبعها الأسد على مدار السنوات الـ12 الماضية، لجأ في بعض المواقف لاتباع سياسة “الصبر الاستراتيجي”، في محاولة منه لتفادي عواقب أكبر.
وفي علم السياسة ينظر إلى الصبر الاستراتيجي على أنه “صمام أمان لامتصاص حدة الغضب أو التسرع المؤدي إلى قدح شرارة صراع لا يعرف أحد ما سيؤول إليه من خراب ودمار شامل”.
ومن هنا جاء صمت الأسد رغم مرور قرابة 40 يوماً على الاحتجاجات المطالبة بإسقاط نظامه، نظراً لأن أي تسرع من جانب الأسد سيؤدي إلى نتائج عكسية هو بغنى عنها، وفق محللين.
الكاتب والناشط السياسي، حافظ قرقوط، يرى أن الأسد كان حذراً في تعاطيه مع احتجاجات السويداء، ليس بسبب عقله وصبره الاستراتيجي، بل لأن الحراك فاجأه وأحرج داعميه، الذين يروجون في المحافل الدولية “لانتصاراته المزعومة”.
وقال قرقوط في حديثه لـ”السورية نت”، “من الواضح أن نظام الأسد قد تفاجأ بهذا الحراك، والزخم الذي رافقه”.
مضيفاً: “أعتقد أن النظام وداعميه مُربكين، خاصة أنهم حاولوا إقناع الدول المعنية بالشأن السوري أن الأسد انتصر وأصبح أكثر قوة، وأنه قادر على تأهيل الدولة السورية، وانتقلوا للخطة التالية عبر طلب مساعدات إعادة الإعمار وتحدثوا عن عودة اللاجئين، لتأتي تلك الاحتجاجات وتحرجهم”.
وهذا ما دفع الأسد لالتزام الصمت، بحسب قرقوط، لأن لجوئه للقمع “سوف يزيد من فضائح هذا النظام”.
واعتبر أن استخدام الأسد للقوة سيكون “مبرراً” لتدخل أردني- عربي في سورية، بسبب قرب السويداء من الأردن.
موضحاً أن هذا التدخل سيكون تحت ذرائع استخدام النظام للقوة ضد شعبه، لكنه ضمنياً سيكون لكبح تجارة المخدرات التي يديرها نظام الأسد، وفق قوله.
وتحدث الكاتب، المنحدر من السويداء، عن ضغوط على الأسد من قبل روسيا وإيران لجهة عدم لجوئه للعنف.
وذلك “لأن إيران لا تريد افتعال مشاكل مع الغرب في ظل المفاوضات الحاصلة حول الملف النووي، إلى جانب عدم رغبة روسيا بفتح ملف خلافي جديد مع الغرب بعد غزوها لأوكرانيا”.
أما الناشط السياسي مشهور حمشو، يرى أن صمت الأسد جاء بسبب فشل ادعاءاته التي أطلقها عام 2011 حول حمايته للأقليات وتصويره لما يحدث في سورية على أنه “طائفي”.
مشيراً في حديثه لـ”السورية نت” أن اتساع رقعة المظاهرات وارتفاع سقف المطالب عبر المطالبة برحيل رأس النظام ومحاسبته، وضعا السويداء عند نقطة اللاعودة ودفعا النظام لالتزام الصمت.
وأضاف: “الحراك السلمي في السويداء كان متسعاً أفقياً وعامودياً منذ اليوم الأول، حيث شمل كافة المدن والبلدات والقرى”.
مردفاً أن “الأسد يعلم أن السويداء والدروز خط أحمر”.
مراهنات الأسد “قد تفشل”
يرى الناشط السياسي مشهور حمشو أن لدى نظام الأسد نزعة لإنهاء الحراك السلمي عسكرياً، “لكن روسيا ووراءها إسرائيل ترفض اللجوء لهذا الخيار”.
وبالتالي، يراهن نظام الأسد على “عامل الوقت” وعلى ملل المحتجين وعودتهم لمنازلهم، وفق تعبيره.
مردفاً أنه يراهن أيضاً على “خبث حزب الله والمليشيات الإيرانية الموجودة في المنطقة والمتشيعين الجدد من أبناء المنطقة، وتحويل الحراك السلمي إلى حرب أهلية درزية”.
وإلى جانب عامل الوقت، يرى الكاتب حافظ قرقوط أن الأسد يراهن على أن “الشارع السوري في باقي المحافظات لن يستجيب لحراك السويداء”.
وذلك لأن الناس في مناطق سيطرة النظام أصبحوا “منهكين”، وفق قوله، إلى جانب اعتقاد النظام بأن “المحتجين هم أقلية درزية ومن الصعب أن تناصرها باقي مكونات الشعب السوري”.
واعتبر قرقوط أن النظام سيخسر هذا الرهان، “لأن السوريين في المهجر وبلدان اللجوء والداخل السوري على قلب واحد مع السويداء، خاصة أن المحتجين يرفعون شعارات الثورة ويطالبون بإسقاط النظام وتطبيق القرارات الدولية”.
وكذلك، يرى الكاتب والباحث السياسي، الدكتور جمال الشوفي، أن مراهنات الأسد على انتهاء الحراك “كثيرة”.
ومن بينها استمرار صمته وبالتالي ملل المحتجين، إلى جانب افتعال الأزمات داخل المحافظة وشق الصف.
وقال في حديثه لـ”السورية نت” إن ذلك “لن يتحقق بل على العكس هناك إصرار ومتابعة يومية، مع تعدد نقاط التظاهر وتركيزها يومياً في ساحة الكرامة وسط المدينة، ويومين في الأسبوع في القرى المجاورة”.
ما المتوقع لهذا الحراك؟
يجمع المحللون الذين تحدثت معهم “السورية نت” على أن الاحتجاجات في السويداء ستتواصل وأن المحتجين “لن يملوا” حتى تتحقق مطالبهم.
وبهذا الصدد قال قرقوط إن “الاحتجاجات مستمرة، وأصبحت تحت الأنظار الدولية، بسبب الرسائل الأمريكية والغربية” التي أيدت مطالب المحتجين.
فيما اعتبر الشوفي أن السويداء “لن تعود إلى الخلف خاصة بعد أن انحصر وجود النظام فيها داخل مؤسسات ضيقة، في حين أصبح خارج الحسابات على المستوى الأمني”.
لكن في حال طال أمد هذه المظاهرات، يرى الشوفي أن النظام قد يلجأ لسيناريوهات “العنف”، وهي سيناريوهات “حذرة جداً وتولد شرارة كبرى، خاصة بوجود خلافات حولها داخل النظام”.
مضيفاً: “المنطقة باتت ذات محتوى وطني، وهناك تجاوب دولي معها من حيث الرؤية، وليس من حيث الحماية والتشجيع”.
وبحسب الشوفي فإن سيناريو قطع طريق دمشق “مستبعد”، كما أن الحديث عن عمل عسكري أو افتعال هجوم لتنظيم “الدولة الإسلامية” هو أمر “سابق لأوانه”.
وبالتالي يبقى الرهان الأول للنظام هو “تعب الحراك ومحاولة شق صفه”، وفق ما يقول.
“ازدواجية الأسد في التعامل”
منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، لجأ الأسد للعنف والقمع ضد المتظاهرين السلميين الذين طالبوا بدايةً بالإصلاحات ثم بإسقاط الأسد وتغيير نظام الحكم.
لكن لا يمكن للأسد اتباع السياسة ذاتها مع السويداء، بحسب خبراء، لاعتبارات متعلقة بطبيعة المنطقة ذات الأقلية الدرزية، فضلاً عن الموقف الحاسم لمشايخ العقل “المؤثرين” والذين اعتاد النظام على وقوفهم بجانبه.
وبهذا الصدد، يرى الكاتب والباحث السياسي، جمال الشوفي، أن اختلاف تعاطي الأسد مع السويداء هو اختلاف “موضعي”، كونه يتعامل مع كل منطقة في سورية بشكل مختلف.
وقال إن السمة العامة لسياسة الأسد، خاصة بعد اتفاقات “خفض التصعيد”، كانت الضرب العسكري والحصار والتجويع، ثم فرض “المصالحات”.
لكن، وبحسب الكاتب، لا يمكن تطبيق ذلك في السويداء، لأن لجوء الأسد للضرب العسكري “سيضر بسلطته بشكل كبير جداً، ويقلب المعادلة العامة الدولية ضده”.
من جانبه، تحدث الزميل الاستشاري في معهد “تشاتام هاوس” حايد حايد، عن “ازدواجية” الأسد في التعامل مع كل منطقة سورية على حدى.
ففي السويداء، بدلاً من اختيار التصعيد، “يبدو أن النظام ينفذ استراتيجية طويلة المدى، عبر تخفيض الخدمات اليومية في المحافظة وزيادة العبء على السكان، ما قد يؤدي إلى انتهاء الاحتجاجات”.
لكن، وبحسب حايد، اتخذ النظام إجراءات احترازية مختلفة في المناطق التي قد تشهد احتجاجات تزامناً مع حراك السويداء، حيث فرضت قوات الأسد حواجز على عدة مناطق في ريف دمشق، ولهذه المناطق القريبة من السويداء تاريخ من “التمرد”.
وأضاف حايد في مقال رأي أن النظام يهدف إلى قمع أي تحركات معارضة بشكل استباقي، من خلال تطويق المدن والبلدات التي من المتوقع أن تشهد احتجاجات.
وفي طرطوس واللاذقية، الحاضنة التي خرجت منها أصوات معارضة مؤخراً، لجأ الأسد لسياسة الاعتقال وكم الأفواه، خاصة مع تردي الأوضاع المعيشية والاستياء الشعبي من النظام في كلتا المنطقتين.
وبحسب حايد فإن الدعوات للتظاهر في طرطوس واللاذقية أدت إلى زيادة الوجود الأمني للنظام في الشوارع.
ويضيف: “يُزعم أيضاً أن النظام اعتقل حوالي 70 شخصاً حتى الآن لمنع أي احتجاجات في المناطق التي تعتبر معاقل للنظام”.
كيف اختلفت عن احتجاجات 2022؟
بالنظر إلى أنها ليست المرة الأولى التي تحتج فيها السويداء ضد النظام السوري، كان للاحتجاجات الحالية صدى أكبر من سابقاتها لاعتبارات عدة فندها محللون.
ففي فبراير/ شباط 2022، شهدت المحافظة احتجاجات، بعد قرار النظام السوري رفع الدعم عن فئات من المجتمع السوري.
لكن لم يرفع المحتجون حينها شعارات مطالبة بإسقاط النظام، بل حملوا لافتات “لا شرقية ولا غربية بدنا سورية بدون تبعية”، “كرامة مساواة عدالة”.
وعلى عكس ما يحصل اليوم، تعهد المحتجون حينها بالمحافظة على “مؤسسات الدولة”، المتواجدة في المحافظة، وعدم مسؤوليتهم عن أي عملية تخريب.
أما في يوليو/ تموز 2022، شهدت السويداء تحركات عسكرية ضد قوات الأسد، احتجاجاً على حالة “الفلتان الأمني”.
حيث نفذت الفصائل المحلية ضربات ضد مجموعات مدعومة من “الأمن العسكري” التابع لنظام الأسد، في محاولة منها “لإنهاء حالة الفوضى ووضع حد للانتهاكات من خطف وقتل وسرقة”، حسب تعبيرها.
وأسفر ذلك عن اتصالات “من أعلى المستويات” بين النظام والزعامات الاجتماعية والدينية في السويداء، لتهدئة الوضع.
أما الاحتجاجات، التي انطلقت منذ أغسطس/ آب الماضي، حملت مطالب مغايرة للسابق، وعلى رأسها رحيل الأسد والانتقال السياسي.
وبهذا الصدد، يقول يمان زباد، مساعد باحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، إنه بالنظر إلى ديناميات حراك آب 2023 يُلاحظ أن هذا الحراك يختلف عما سبقه بثلاث نقاط، أبرزها التوسع الجغرافي للحراك.
موضحاً لـ”السورية نت” أن نقاط التظاهر انحصرت في الحراكات السابقة بثلاث نقاط أساسية وهي: مركز مدينة السويداء والقريا وشهبا.
بينما تجاوزت نقاط التظاهر في حراك آب 48 منطقة لم تشارك سابقاً في الاحتجاجات.
أما النقطة الثانية، بحسب زباد، هي مشاركة قسم من عشائر البدو في الحراك، وأهمهم العشائر في بلدة المنصورة، حيث كانت التوترات قائمة بين أهالي السويداء والعشائر البدوية سابقاً.
والنقطة الثالثة هي مشاركة المرجعيات الدينية، المتمثلة بثلاثة شيوخ، هم حكمت الهجري، يوسف الجربوع وحمود الحناوي، وجميعهم أيدوا مطالب حراك آب 2023 مع اختلاف مستوى التصعيد في خطاباتهم ومواقفهم من نظام الأسد.
وتبقى مآلات هذا الحراك مفتوحة وخارج نطاق التوقعات، في ظل ضبابية المشهد وما إذا كان نهج النظام سيمكنه من الصمود في وجه هذه الموجة من الاحتجاجات، التي يؤكد ناشطو السويداء أنها “مستمرة حتى تحقيق المطالب”.