عبثيون يستنكرون العبثية
إنتهت مساء الجمعة 29 كانون الثاني/ يناير 2021 اجتماعات الدورة الخامسة من اللجنة الدستورية السورية في مقر الأمم المتّحدة بجنيف السويسرية، من دون الاتفاق على موعد للدورة السادسة. يأتينا الخبر ليقول لنا استقال فلان الفلاني من ممثلي هيئة التفاوض في “اللجنة الدستورية”، واصفًا العملية الدستورية بالعبثية، وخبر آخر يقول استقال فلان/ فلانة من “الائتلاف الوطني”، بعد توصله إلى قناعة بأن هذا التشكيل أو (اللمة) مضيعة للوقت، وخبر غيره يقول استقالت المجموعة الفلانية من مجموعة المستقلين التي شكلتها الرياض في العام الماضي. ربما يريد هؤلاء المستقيلون أو المنسحبون أن نحتفي بهم وباستقالاتهم وانسحاباتهم، ونشكرهم على “شفافيتهم” و”يقظتهم” الوطنيتين، تمامًا كما أرادونا أن نحتفي بهم، وبوعودهم، عندما تنافسوا وتقاتلوا طمعًا بمقعد في الائتلاف أو هيئة التفاوض أو اللجنة الدستورية.
ليس هناك من عنوان يعبِّر عن ظاهرة المنسحبين والمستقيلين، بل وعن الباقين أيضًا، أكثر من عنوان “عبثيون يستنكرون العبث”؛ أنتم العبث ذاته، أنتم تجسيد حقيقي للعبث. ما معنى ألّا يكتشف المرء العبثية إلا بعد مرور سنوات على انخراطه فيها؟ تُحسدون فعلًا على اكتشافكم “العظيم”. مع هذه الاستقالات والانسحابات كان يجدر بكم أن تقولوا لنا بعبارات صريحة وواضحة: نحن عبثيون، شاركنا في عمليات وأجسام وتشكيلات وعمليات عبثية، ولم نمارس إلا العبث، ولم ننتج إلا العبث. إعلان الاستقالة هو إعلان براءة مرفوض. أنتم لم تفعلوا، ولا تفعلون شيئًا، سوى السير مع “الموجة” السائدة، بل وتتزاحمون على ركوبها، ومن ثم تستقيلون منها، وتتبرؤون من فعلتكم.
يقول أحدهم (شعبنا ينتظر نتائج لا وعود فارغة). كيف كانت مسيرتكم خلال عشر سنوات غير مسيرة الوعود الفارغة؟ وعود بالتدخل الأميركي، وعود بالسلاح، النوعي وغير النوعي، وعود باقتراب سقوط النظام، وعود سعودية وقطرية وإماراتية وتركية تأخذونها جديًا، من دون أن تتعبوا رؤوسكم بالتفكير في استراتيجيات الدول الفعلية، لا تميزون بين التصريحات الدبلوماسية والحقائق السياسية، وبعضكم يختبئ في ظلّ حكومة ما تُقدِّمه، وتأخذ بيده، ليكون في اللجنة الفلانية أو الهيئة الفلانية أو التشكيل الفلاني.
في الحقيقة، لم يبقَ سوى وقتٍ قليل، ليدير “النظام السوري” ظهره لهذه الكراكيب المتعفِّنة، وللعمليات المرتبطة بها، التي سار معها وفيها على مضض. كان “النظام السوري” واضحًا جدًا من حيث رأيه في العملية السياسية و”الشرعية الدولية”، وغيرها من التعبيرات الدبلوماسية، بقوله إنها “لعبة نلعبها”. فيما هو يلعب لعبته الحقيقية والفعلية في ميادين وأحياز أخرى. أنتم تعاملتم مع اللعبة القائمة بوصفها عملية جدية وحقيقية، أنتم لم تلعبوها، بل جرى اللعب بكم.
يظهر من تصريحاتكم، ومؤتمراتكم الصحفية، أنكم دخلتم في حبائل لعبة يشارك فيها الجميع، النظام ودول إقليمية ودول كبرى، ولم تتقنوا شيئًا سوى الاندماج بمفردات وتعابير هذه اللعبة اللفظية والكلامية، تتوقعون أنكم بتكراركم بضع عبارات دبلوماسية أنكم أصبحتم رجال سياسة ودولة، تلك العبارات التي يستخدمها الأقوياء، خصوصًا عندما لا يريدون أن يفعلوا شيئًا، مثل “العملية العبثية”، “قرارات الشرعية الدولية”، “نحمِّل مسؤولية الفشل للطرف الآخر”، “الحل السياسي المستدام”، “نشكر المساعي الحميدة لفلان ابن فلان”، “تعربون عن أملكم في..”، و”كانت النتائج مخيبة للآمال”، “حريصون على ألّا يوجه لنا أي طرف أصابع الاتهام بأننا سلبيون أو معطِّلون لعمل اللجنة”، وغيرها من التعابير والمفردات السمجة. كلام فارغ عندما يكون وزن المرء وزن ذبابة.
إذا كانت “اللجنة الدستورية”، خلال عام وثلاثة أشهر، لم تتفق على أي شيء واحد بعد، فهذا يعني أن النظام يستطيع أن يسير بكم مدة قرن من الزمان لتتفقوا، وربما لا، على بند واحد، وعلى الأرجح سيكون البند في مجال صلاحيات البلديات أو المخاتير في الدستور، ليس أكثر. أيها العبثيون “الدستوريون” أنتم مطواعون جدًا؛ من دون وجود إرادة دولية واضحة، وضغط مباشر على النظام، لا قيمة لأي تفاوض.
تظهر العبثية أيضًا عندما نسمع أن بعض أعضاء اللجنة الدستورية المعارضين، وهم على أعتاب الجولة الخامسة، انهمكوا في مناقشة القضية التعليمية في الدستور، وأكدوا “حرصهم على التعليم كقيمة مضافة للدولة والمجتمع”، وسيركزون جهدهم على “أن تكفل الدولة بموجب الدستور العملية التعليمية والإشراف عليها من خلال إدراج نصوص دستورية.” بعد مدة قصيرة، قد يتحفنا أولئك أنفسهم بالاستقالة من اللجنة الدستورية واصفين إياها بالعبثية. أنتم عبثيون يستنكرون العبثية.
الغريب، بعد فشل الجولة الخامسة، أن الممثل الأممي، بيدرسون، بحسب كلامه، قد أعرب عن أمله في الذهاب إلى دمشق قريبًا لمناقشة حكومة النظام السوري بشأن العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254 والخطوات المطلوبة لتصويب عمل اللجنة الدستورية كي تنجز أعمالها بأسرع وقت ممكن. هذه “نكتة بيدرسونية” حقًا؛ سيستمع النظام إلى بيدرسون، وسيُفاجأ بتعطّل اللجنة الدستورية، وسيزعجه هذا كثيرًا، ومن ثم سيعطي أوامره سريعًا بإزالة جميع العوائق أمام اللجنة الدستورية!
تغلب على وعينا السائد “الصفة التجريبية”، وهو نمط خطر من الوعي، لا يتعلم صاحبه، في أحسن الأحوال، إلا بعد اكتمال التجربة. والكارثة الأخطر ألا يتعلم أبدًا من عشرات التجارب. وهذا حصل لدى (قادة) و(سياسيين) و(مثقفين) في “المعارضة السورية”، وليس على مستوى الأفراد العاديين فحسب. وبالطبع لا توجد أي فضيلة في معرفة الحقيقة بعد أن تصبح بديهية يعرفها القاصي والداني؛ ففضيلة الوعي الرئيسة هي قدرته على معرفة مسارات الواقع واحتمالاته المرجحة والتنبؤ بالمستقبل.
الوعي التجريبي هو أبسط طرق التفكير، ويعبر عن سذاجة مؤلمة في قراءة الواقع. الوعي التجريبي لا يرى الحقيقة إلا عندما تتجسد واقعًا يفقأ العين، ويصعب عليه أن يرى إلا ما هو ظاهر، ولا يهتم برؤية ما هو كامن أو محتمل أو رؤية الاحتمال الأكثر وقوعًا استنادًا إلى معطيات معينة: لم يكن صعبًا التوقّع مثلًا أن “الائتلاف الوطني السوري” بالآلية التي شُكِّل بها، سيكون له دور وظيفي محدَّد ومحدود يتوافق مع الدول التي شكلته ورعته، ولم يكن صعبًا التوقّع أن آلية “تحرير الأرض” من السلطة الحاكمة هي آلية فاشلة ولن نحصد من ورائها إلا الفشل، ولم يكن صعبًا التوقّع أن اختزال الثورة السورية إلى صراع عسكري سوف يحطِّمها ولن نجد آنذاك إلا المرارة في انتظارنا، ولم يكن صعبًا التوقّع أن تحقيق “انتصار” عسكري ضد “النظام السوري”، في ظل معطيات سورية والإقليم والعالم، هو أمر أقرب إلى المستحيل، ولم يكن صعبًا التوقّع أن دول العالم معظمها، “الصديقة” و”العدوة”، لن ترضى بوصول “فصائل إسلامية” إلى الحكم في سورية، ولم يكن صعبًا التوقّع أن “الفصائل الإسلامية” ستتقاتل وتتصارع فيما بينها، عاجلًا أم آجلًا، ولم يكن صعبًا التوقّع أن “مسار أستانا” و”مسار سوتشي” سيصبان في مصلحة روسيا وإيران والسلطة السورية، ولم يكن صعبًا التوقّع أن سياسات الخليج وتركيا تجاه القضية السورية لا تستطيع أن تتجاوز ما تريده وتراه السياسة الأميركية، ولم يكن صعبًا التوقّع أن افتقادنا إلى قوى سياسية حقيقية ومتماسكة سيجعلنا عرايا أمام العالم، وبلا بوصلة أو ناظم… إلخ.
هذه بعض القضايا التي شغلت كثيرًا من السوريين، وأيدوها ووضعوا الآمال فيها، وهناك عشرات القضايا الأخرى البديهية والمتوقعة، وكلها وقعنا في مطباتها وحفرها، على الرغم مما نسمعه اليوم من تنكّر كثيرين أيضًا لآرائهم السطحية والانفعالية في السنوات الماضية تجاه القضايا هذه، وتبرُّئهم منها. في اعتقادي، إن قليلًا من الوعي كان كافيًا لمعرفة نهايات الطرق الماضية سلفًا، ومن ثمّ تجنب السير فيها، والبحث عن أدوات وآليات حقيقية لإنجاز كثير من مهمات الثورة السورية. في الحقيقة، يعلمنا التاريخ أن أكثر الناس جعجعة هم أكثرهم تنازلًا وانعطافًا. الاستعراضات اللفظية والسلوكية لا تبني دولًا ولا تجعل من أحد زعيمًا أو قائدًا.
في النقاش السوري العام حول “اللجنة الدستورية”، لا تكمن القضية الأساسية في الوقوف مع المشاركة في العملية الدستورية أو ضدها؛ فأسوأ المواقف (وأسهلها) هي تلك التي يجيب عنها المرء بنعم أو لا، ويكتفي. يمكن أن تكون المشاركة أمرًا إيجابيًا، على الرغم من معرفتنا بنواقص وأفخاخ ونقاط ضعف هذا المسار، عندما يدخلها المشاركون فحسب وهم مقتنعون بأنها لعبة يلعبونها، وأن مقدمات الحل السياسي الفعلي ينبغي بناؤها خارج الأطر هذه، أي عندما لا نضع البيض كله في سلة “العملية الدستورية واللجنة الدستورية”، علاوة على شروط تفصيلية أخرى عديدة؛ أن يقدّم المعارضون المشاركون رؤية توافقية حول الدستور فيما بينهم أولًا، لا رؤى فردية وشخصية، ويتسلحوا بخطة تفصيلية، سياسية وإعلامية، تساعدهم في عملهم، قبل وفي أثناء وبعد الجلسات، وأن تكون المشاركة جزءًا من عمل أكبر وأوسع، أي محطة من جملة أعمال أخرى مطلوبة تتجاوز اللجنة الدستورية، وأن يكون المشاركون في اللجنة جزءًا من مركز سياسي سوري وطني متفق عليه، ويخضعون لرؤيته. ما استراتيجيتكم أيها العبثيون “الدستوريون”، في حال عطّل النظام اللجنة الدستورية، كما هو متوقّع بنسبة مئة في المئة؟ الجواب: لا شيء؛ قليل من الشجب والاستنكار، مع قليل من الندب، ولا بأس بالتوسّل قليلًا على أبواب السفارات.
يُذكِّرني “الائتلاف الوطني” و”الهيئة العليا للمفاوضات” و”اللجنة الدستورية” بما كنا نطلق عليه قديمًا في المعارضة قبل 2011: “مؤسسات الضبط الاجتماعي”، مثل “معسكرات التدريب الجامعي” و”الاتحاد الوطني لطلبة سورية”، تلك التي لم يكن لها من فائدة سوى وضع الشباب تحت الرقابة، ومنعهم من بناء تشكيلاتهم ونقاباتهم المستقلة بعيدًا عن السلطة.
إن الكراكيب الموجودة (الائتلاف الوطني وهيئة المفاوضات واللجنة الدستورية) ليس لها من وظيفة، على المستوى السوري، سوى قطع الطريق على السوريين لبناء مؤسسات حقيقية ينتمون إليها وتنتمي إليهم؛ فالاعتراف الإقليمي والدولي بالكراكيب هذه لم يكن له من هدف سوى ركوبها من جهة أولى، وتثبيط همة السوريين لبناء تلك المؤسسات التي يطمحون إليها حقًا، كونها لن تحصل حكمًا على الاعتراف مع استمرار وجود الكراكيب، من جهة ثانية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت