إذا صحّت التقارير التي تواترت عن نقل روسيا سرب طائرات ميغ 29 وطائرتي سوخوي 24 من قاعدة حميميم على الساحل السوري إلى قاعدة الجفرة وسط ليبيا، لدعم قوات اللواء (المتقاعد) خليفة حفتر التي تتعرّض لهزائم متلاحقة حول العاصمة طرابلس، فهذا يعني أن حرب الوكالة التي تخوضها روسيا وتركيا في سورية قد اتسعت لتشمل ليبيا. وكانت الأمور بدأت تأخذ هذا المنحى منذ العام الماضي، مع تزايد طموح موسكو، في غياب الاهتمام الأميركي، إلى توسيع نفوذها في حوض المتوسط باتجاه ليبيا، بعد أن كرّسته في سورية. وينطبق الأمر نفسه على تركيا التي أخذت تتبنّى نهجا أكثر اندفاعا في حماية مصالحها الإقليمية، خصوصا بعد أن نجح الرئيس أردوغان في السيطرة على الجيش بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.
وتجتهد روسيا وتركيا في الدفاع عن مصالحهما في ليبيا، وقد اتضحت أهمية هذا البلد لهما مع احتدام التنافس الإقليمي والدولي عليه. وكانت لهما مصالح اقتصادية كبيرة في ليبيا قبل ثورة فبراير 2011، وكان ذلك سببا في معارضتهما الحملة الجوية التي أطلقها حلف الناتو لإطاحة نظام القذافي، إذ كان لروسيا عقود تسليح كبيرة مع النظام المذكور، كما كان للشركات التركية عقود واستثمارات تصل قيمتها إلى 15 مليار دولار، خصوصا في قطاع الإنشاءات الليبي (غيرت تركيا موقفها بعد ذلك). في الفترة الراهنة، غدت مصالح البلدين أكثر أهمية من قبل، ففضلا عن اهتمام روسيا بقطاع النفط الليبي القريب من أوروبا، تتيح سيطرة نظام قريب منها على ليبيا موطئ قدم استراتيجيا لها يطلّ على البحر المتوسط وجنوب أوروبا من جهة، ويضعها من جهة ثانية في قلب القارّة الأفريقية التي يزداد التنافس عليها بين الصين وأميركا، وإلى حد أقل فرنسا. أما تركيا فقد باتت معركة ليبيا رمزا لصعودها قوة إقليمية كبيرة في المنطقة. كما فتحت ليبيا الباب أمام أنقرة لإعادة رسم خريطة النفوذ والطاقة في شرق المتوسط، بعد أن توصلت إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس، ما أضاف إليها نحو 100 ألف كم مربع من مساحة مياه المتوسط، وقطع الطريق أمام إمكانية بناء خط أنابيب لنقل النفط باتجاه أوروبا بالتعاون بين إسرائيل وقبرص الرومية واليونان.
ونظرا إلى حجم هذه المصالح، يتوقع أن يزداد حجم الانخراط التركي والروسي في الحرب الليبية، وصولا إلى مستوى انخراطهما في الصراع السوري. ويميل بعضهم إلى رد هذه الأسباب إلى اعتبار أن ساحة المعركة صارت واحدة في سورية وليبيا، بدليل مشاركة “مرتزقة” سوريين في القتال إلى جانب الطرفين في ليبيا، وقرار حكومة شرق ليبيا الموالية لحفتر إعادة فتح السفارة الليبية في دمشق. وفق هذه المقاربة، يرى هؤلاء أن أي تصعيد ميداني في ليبيا سوف ينعكس تلقائيا على التفاهمات الروسية – التركية في سورية، خصوصا بعد أن دمرت “مسيّرات” تركية منظومات دفاع جوي روسية قصيرة المدى من نوع “بانتسير” في قاعدة الوطية، ما أسهم في سقوطها بيد القوات المؤيدة لحكومة الوفاق في طرابلس.
احتمال أن تتأثر التفاهمات الروسية التركية في سورية بالتطورات الميدانية في ليبيا وارد جداً، ولكن هناك أيضا احتمال أن يتكرّر السيناريو السوري في ليبيا، بمعنى أن تنجح روسيا وتركيا في تهميش الأطراف الخارجية الأخرى المنخرطة في الصراع، والاستئثار بالقرار الميداني والسياسي، ما يمكّنهما من التوصل إلى تفاهماتٍ على غرار تفاهمات أستانة. هذا ليس السيناريو المثالي قطعاً، فالعرب أوْلى بلعب هذا الدور، ولكن في ظل التجارب التي سبقت ثورات الربيع العربي وأعقبتها، يتضح أن الغياب العربي ليس بالضرورة أمرا سلبيا، فالسياسة عند العرب تأخذ طابعًا شخصيا جدًا، خصوصا في صراعاتهم البينية، وتقوم على المناكفة والنكايات، وتحقير الآخرين من بني قومهم، لذلك يغيب عنها منطق التسويات، وترتكز على معادلاتٍ صِفرية، جوهرها كل شيء أو لا شيء. ولو كان الأمر غير ذلك لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه في سورية والعراق، ولما استمرّت الحروب العبثية في ليبيا واليمن، ولما صممْنا آذاننا عن دعوات “الأجانب” لنا لوقف الاقتتال في ما بيننا، ولو مرحليا للتفرّغ لمواجهة جائحة تهدّد الجميع!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت