تحسّنٌ غريبٌ، وكبيرٌ، طرأ على سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، خلال الأسبوع الفائت. إذ تراجع الدولار في دمشق من 7200 إلى 5950 ليرة. أي أن الليرة استردت نحو ثلثي الخسائر التي مُنيت بها منذ بداية شهر كانون الأول/ديسمبر الفائت، حينما بدأت مساراً هابطاً انهارت معه إلى قاعٍ غير مسبوق في تاريخها.
أما وجه الغرابة في التحسّن، أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار الأخير في سعر صرف الليرة، ما تزال قائمة. وما يؤكد هذه القراءة، أن أسعار السلع في الأسواق، لم تنخفض رغم تحسّن الليرة، بإقرار الإعلام الموالي. ناهيك عن قرارات المركزي السوري في الأيام الأولى من العام الجديد، والتي أقرّ فيها بانخفاض قيمة الليرة بنحو 50%، على الأقل، حينما رفع “الأسعار الرسمية” للدولار، بهذه النسبة.
والملفت أن تحسّن الليرة انسحب على أسواق العملة غير الخاضعة –بصورة مباشرة- لسيطرة النظام، كما في إدلب والقامشلي. مما يؤكد أن عرضاً للدولار، قد أُتيح، بالفعل. وهو ما يتوافق مع شهادات مطلعين قالت إن المركزي السوري ضخ عبر شركات صرافة، سيولة من الدولار في الأسواق. وقد عكست التغطية الإعلامية الموالية ذلك. إذ أخذت منذ الأيام الأولى للعام الجديد، تهلل لما وصفته بـ “المعجزة”، مع هبوط الدولار أكثر من 1000 ليرة. جاء ذلك بعيد بيانٍ خرج به المركزي عن صمته طوال فترة انهيار الليرة في الشهر السابق، ليقول إنه يقوم بـ “اتخاذ كافة الوسائل والإجراءات الممكنة لإعادة التوازن إلى الليرة السورية”.
وفي معرض البحث عن أسباب التحسّن الأخير لليرة، يُستبعد عامل الدعم الخارجي، الإيراني أو الروسي. إذ لو كان قد حدث، لكانت الجهات الداعمة أعلنت ذلك، نظراً لفائدته السياسية بالنسبة لها، خاصة بعد أن دفع النظام –مؤخراً- محللين مقربين منه للمجاهرة بالعتب على روسيا، جراء عدم دعمها للنظام، اقتصادياً ومالياً، في واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق.
كما لا يمكن الحديث هنا عن أثر ملحوظ للعامل النفسي المتأتي من مشاريع “التطبيع” التركي مع النظام، أو التحرك الإماراتي الأخير، نحوه. إذ يعلم التجار جيداً، وهم أكثر من يتسببون بالطلب على القطع الأجنبي في البلاد، أن أية نتائج اقتصادية إيجابية لهذه التطورات السياسية، ستكون بعيدة الأمد. هذا إن حدثت أساساً، قياساً على خيبات الأمل الاقتصادية من نتائج “الانفتاح” الذي أبدته بعض الدول العربية، على النظام السوري، خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وهكذا، تنحصر أسباب التحسّن الأخير لليرة، بنشاط “مضاربة”، تدخل فيه المركزي، واستند فيه على مصادره الخاصة بالقطع الأجنبي. وهي مصادر تنحصر في مسارين. الأول، الرسمي، الناجم عن حوالات المنظمات الدولية لموظفيها، والتي تُسلّم لهم بالليرة، فيما يحصل المركزي على الدولار. وكذلك حوالات السوريين المغتربين، التي تدخل البلاد عبر شركات صرافة مُرخّصة متعاونة مع النظام. وهي أيضاً، مصدر رئيس للدولار، بالنسبة للمركزي. وهناك المصدر المرتبط بإجراء إعادة قطع التصدير، بنسبة 50%، من جانب المستوردين، وفق تعليمات المركزي.
لكن حوالات السوريين تراجعت وفق مؤشرات عدة. فيما انخفضت الصادرات السورية إلى النصف، حسب مصادر رسمية. وهذان العاملان كانا من أبرز عوامل انهيار الليرة في الأشهر الأخيرة من العام الفائت. مما يعني أن المركزي لم يعتمد على مصادره “الرسمية”، من القطع الأجنبي، للتدخل في أسواق العملة. وهو ما يحيلنا للمصادر “غير الرسمية”. والتي هي في صميم عمل أسواق العملة في مناطق سوريا الثلاث، “شرق الفرات”، و”شمال غرب سوريا”، ومناطق سيطرة النظام، إلى جانب السوق اللبنانية. إذ أن بيع وشراء الدولار بين هذه الأسواق –الأربعة-، يشكّل رافعة التعاملات في تلك الأسواق. ومن بين أكبر المضاربين عبر الأسواق الأربعة تلك، يأتي المركزي ذاته، باستخدام مكاتب وشركات الصرافة والحوالات، المرتبطة به.
لكن، من أية أسواق –من بين الأربعة- حصل المركزي على الدولار للمضاربة به، في مناطق سيطرته؟ يُظهر انخفاض سعر صرف الدولار في دمشق، دون نظيره في إدلب أو القامشلي، أن المركزي لم يستند على الأسواق في شرق وشمال سوريا، للحصول على الدولار، كما كانت العادة، في السنة الفائتة. وهو ما يدعم التفسير الرائج، أن النظام استند هذه المرة على السوق اللبنانية، بالتحديد.
ما دلالات ذلك؟ أن المركزي يتعامل بعقلية المُضارب. وهو أمر ليس بالجديد، بل يعود إلى عهد حاكمه الأسبق، أديب ميالة، حينما وُصف المركزي من جانب أكاديميين متخصصين بالاقتصاد السوري، بأنه أكبر مُضارب في السوق السوداء للعملة في البلاد.
لكن ما تبعات ذلك؟ التبعات تظهر جليّة في أسعار السلع، التي لم تنخفض بالتزامن مع استمرار ندرة بعضها. ويتفق التجار على أن سعر الدولار الحقيقي، الذي يتم بموجبه تسعير السلع الموردة إلى البلاد، هو 8000 ليرة سورية للدولار. فيما سعر السوق السوداء بات تحت الـ 6000، لكنه منفصل تماماً عن القوة الشرائية الحقيقية لليرة.
وفيما ينخفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ترتفع تكاليف الإنتاج، والرسوم المفروضة على التجار. فأسعار المحروقات وأجور النقل، ارتفعت بقرارات رسمية، مرتين على الأقل، خلال آخر 40 يوماً. وفي الأسبوع الفائت فقط، ارتفع الدولار الجمركي على المستوردين، ليعكسوه على أسعار المبيع للمستهلك.
أي أن “معجزة” الليرة، كما وصفها الإعلام الموالي، انعكست فقط، خسارةً لصغار المضاربين في السوق السوداء للعملة، الذين خسروا 17% من قيمة دولاراتهم، لصالح كبار المضاربين، الذين سيشترون الدولار من السوق في الأيام القليلة القادمة، قبل أن يعيدوا رفع سعره لاحقاً، وبيعه لذات المضاربين الصغار. كذلك انعكست “معجزة” الليرة، خسارةً لأغلبية السوريين في مناطق سيطرة النظام، الذين يعيشون –بنسبة الثلثين-، بالاعتماد على حوالات أقاربهم في الخارج، والتي سيستلمونها، في أحسن الأحوال، بدولار يساوي 6000 ليرة، فيما يشترون السلع من الأسواق، بدولار يساوي 8000 ليرة. أما المضاربون الكبار، وهم الرابحون مما حدث بالأيام القليلة الفائتة، فيأتي في مقدمتهم، المركزي السوري.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت