أول اختلاف شقّ صفوف الثورة السورية لم يكن لا طائفيا ولا سياسيا ولا أيديولوجيا، ولكنه كان حول الدعوة إلى التدخل الأجنبي بين من لم يعد يفكر بشيء آخر غيره، وعطل كل مساهمته ومبادرته في الدعوة إليه، ومن يرفضه بالمطلق ويرفض أن يناقش مبدأه. وقد فشل الرهان الذي وضعته أنا نفسي، كمسؤول في المجلس الوطني، على ما اعتقدت أنه يمكن أن يكون حلا وسطا، وهو رفض الدعوة إلى التدخل العسكري، ورفض التسليم بالأمر الواقع، وتكتيف اليدين أمام المقتلة الجماعية التي أعدها النظام لنشطاء الثورة وجمهورها، انتهاكا لجميع الالتزامات والمسؤوليات التي تقع على عاتق النظام في حماية شعبه لقاء احتكاره القوة وأدوات العنف، وتمتعه بالسيادة في إطار المنظومة الدولية. وهكذا وجدت الحل في التركيز على طلب الحماية الدولية للمدنيين، كما تنص عليه مواثيق االثورة السورية، ليس لإسقاط النظام كما حصل من قبل في ليبيا، ولكن لمنع النظام من استخدام القوة المفرطة وغير المشروعة لسحق ثورةٍ مدينةٍ وسلميةٍ تطالب بالإصلاح والتغيير. كنت أقول وأعتقد بالفعل أن الشعب السوري كان كفيلا وقادرا على تحقيق أهدافه في دفع النظام إلى الإصلاح أو في إسقاطه، وقد أظهر ذلك في وحدته وتضامنه وإصراره وتحمله التضحيات الجسام، لولا تغول هذا الأخير عليه، وزجه الدولة والجيش وقوات الأمن ضده في حربٍ مجنونة، سرعان ما تحولت إلى حرب إبادة، عزّزها تدخل المليشيات الطائفية الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها، قبل أن يهرع الروس لنجدتها بعد أن عجزت عن إخماد جذوة البطولة السورية.
ولكن شعار حماية المدنيين لم يصمد طويلا أمام هجوم أصحاب التدخل العسكري الذين نظروا إليه أنه ذريعة للهرب من طلب التدخل العسكري الدولي، والأطلسي إذا أمكن، ولا أمام هجوم أصحاب الحل السوري السوري ورفض اللجوء إلى أي دعم أممي، حتى لو كان من طبيعة إنسانية، كأصحاب هيئة التنسيق، وذهب مع الريح من دون أن يثير اهتمام أحد. وهكذا تفاقم الانقسام داخل صفوف جمهور الثورة، وتدهورت مصداقية المجلس الوطني إطارا جامعا لقوى الثورة والمعارضة، وترسخت القطيعة نهائيا بين طرفي المعارضة، الممثلين في المجلس من جهة، وفي هيئة التنسيق، وفقدنا أي أمل في بناء جبهة ثورية متماسكة، كنا أحوج ما نكون لها، لتصعيد الضغط على المجتمع الدولي، ودفعه إلى الانخراط بشكل أكبر إلى جانب الشعب المنكوب، وتفاقمت عوامل الفشل والإحباط والانقسام بين صفوفنا، ومن ثم انعدام التنسيق والتعاون والعمل المشترك.
وفي المقابل، لم تظهر المجموعة الدولية التي أبدت بعض الاهتمام بمصير الثورة السورية أي حماسة من أي نوع للتدخل، سواء كان لحماية المدنيين أو حتى للمساعدة الإنسانية، وساد التسليم بالأمر الواقع والانتظار، لعل الروس يكتفون بفيتو أو اثنين أو ثلاثة، ويقبلون دفع النظام إلى قبول الحوار. ولم يقوموا بأي محاولة لنزع الشرعية عن النظام، وتعليق عضويته في الأمم المتحدة، فلم يكن أحد يريد التورّط في حرب جديدة فاشلة، أو في مواجهة دولية وإقليمية مع إيران وروسيا التي وقفت بالمرصاد لأي موقف سلبي أممي من النظام. وقد أعاد هذا الفشل المزدوج للمجتمع الدولي وللمعارضة الثقة إلى النظام وحلفائه بإمكانية تحقيق النصر العسكري وتصعيد الحرب، وتحويلها بشكل سافر إلى حرب إبادة وتطهير ديمغرافي، وحرق للأرض والمدن والقرى، لوضع العالم بأكمله، ووضعنا نحن أيضا أمام أمر واقع جديد، هو الفراغ السياسي والدمار الاقتصادي، وتشتيت صفوف المعارضة، ومنعها من القيام بأي تظاهرة أو ردة فعل ذات مغزى، داخل البلاد وخارجها، حتى يعترف له بالحق في البقاء.
ومن الواضح أننا، أعني ما تبقى من قوى الثورة والمعارضة، المثخنة بالجراح والمحطمة سياسيا ومعنويا، لم ننجح بعد في الخروج من آثار صدمة حرب الإبادة هذه، وإعادة ترميم صفوفنا وعقولنا، واستعادة قدراتنا لملء هذا الفراغ، ورفع الأنقاض التي أهيلت علينا، والتي لا تزال تمنعنا من التفكير والتنفس وسماع أصواتنا بعضنا بعضا.
(2)
على ضوء الوثائق المفحمة والمفجعة التي خرج بها الضابط المنشق قيصر، وبجهود استثنائية لنشطاء سوريين مقيمين في الولايات المتحدة، قبلت واشنطن أن تتخذ إجراءً يصب في حماية المدنيين، أو على الأقل يعترف بالظلم الذي وقع على السوريين، وبالجرائم التي ارتكبها الأسد ونظامه وحلفاؤه، بعد تسع سنوات من التجاهل وإشاحة النظر عن المأساة السورية. ويدعو في الوقت نفسه المسؤولين عن المأساة بالشروع في تطبيق قرار مجلس الأمن، لوضع حد للحرب وإخراج البلاد من حال الدمار والشلل والانقسام، وفتح أفق العودة بسورية وشعبها إلى ما يمكن أن يكون شبه حالة طبيعية.
يقول أنصار النظام إن القانون سوف يؤثر سلبا على اقتصاد البلاد، ويعزون له الانهيار الاقتصادي الذي لم يعد من الممكن إخفاؤه عن أحد. وليس هناك شكٌّ في أنه ستكون لقانون قيصر انعكاسات اقتصادية على السوريين، حتى لو أن هدفه الأول معاقبة الحاكمين، وبشكل أكبر تحفيز حلفائهم على العمل للإسراع في إيجاد حل للمأساة، قبل أن يتحول رهانهم على استغلال أموال إعادة الإعمار إلى سحابة صيف. لكن بصرف النظر عن صحة هذا الاستنتاج، لماذا لا يقرّر الأسد وحلفاؤه، إذا كانوا بالفعل حريصين على حياة السوريين، البدء بتغيير سياستهم والدخول في مفاوضات سورية سورية لحرمان الكونغرس الأميركي من تحقيق أهدافه، وليوفر على سورية والسوريين مزيدا من الخراب والجوع؟ هل هو خوفه من خسارة معركة تحرير القدس وفلسطين مثلا، أم سقوط سورية في يد الإرهاب كما كان يدّعي دائما، أم الحرص على الدفاع عما أصبح ينظر إليه حقا عائليا في ملك سورية، بأرضها وشعبها ومواردها؟ ولكن، من جهة ثانية، كما يقول فيصل القاسم في معاكساته، لماذا نريد أن يوفر الأسد الجوع والموت على السوريين، وهو الذي لم يبخل بسلاح ولا حصار تجويع وتركيع ولا سلاح دمار شامل، كيميائي أو عادي، لقتل أكثر ما يمكن منهم وتشريدهم، وعمل المستحيل ليصل بهم إلى ما هم عليه اليوم من بؤس، لا يكاد يزاحمهم على أسبقيتهم فيه اليوم أي شعب على وجه الأرض؟
لو كان الأسد فعلا يعتقد أن قانون قيصر موجه ضد السوريين، ومن أجل الإمعان في إيذائهم، لا ضده وضد حلفائه في سبيل إجبارهم على التفاوض، ولا أقول التنازل، لكان أول المصفقين له والمطالبين بالتشدد في تطبيقه، فما الذي فعله خلال السنوات التسع الماضية، في جميع ميادين النشاط الاقتصادي والعسكري والإعلامي، ولم يكن الغرض منه إنهاك السوريين وتهديدهم وترويعهم وتجويعهم وتشريدهم؟
نغشّ أنفسنا إذا قلنا إن القانون لن يكون له تأثير على عامة الشعب. لكن تأثيره سيكون أخطر على المسؤولين وأصحاب المزرعة، وعلى سلوكهم واختياراتهم، وعلى حلفائهم بشكل خاص، وإلا لما وقفوا ضده وهاجموه. والوضع يشبه، في الواقع، محاولة إنقاذ رهائن من خاطفيهم، مع فارق أن المخطوف هنا هو شعب كامل، وأن الخاطفين تحالف دولي واسع. وليس هناك أي سبب في ألا يعمد الخاطفون إلى التهديد بقتل الرهائن أو قتل واحد بعد الآخر، لإظهار إصرارهم على رفض الاستسلام. في هذه الحالة، لن يكون التحدّي هو ضبط الآثار الاقتصادية السلبية لقانون قيصر، وإنما حماية أرواح الرهائن من انتقام الخاطفين. الرهان يبقى على الروس في عقلنة مستخدميهم السوريين.
ولكن يكذب من يقول إن هذا القانون هو السبب أو أحد الأسباب في تدهور الأوضاع المعيشية، فالسبب الحقيقي والرئيس للخراب والانهيار الاقتصادي هو الحرب التي شنها النظام على الشعب والدمار والقتل الذي رافقها، والذي حول نصف شعبها إلى مهجّرين، والنصف الآخر إلى عاطلين، وجعل نسبة الذين يعيشون تحت حد الفقر، على الرغم من المساعدات الإنسانية الدولية، قريبا من 90%. وسجل هذا الانهيار مرسوم في وقائع الفساد الكبير، وفي الخيارات الاقتصادية المافيوية، ورأسمالية المحاسيب والمحسوبيات، وسرقة المال العام، وتحويل البلاد إلى مزرعة شخصية، منذورة لتحقيق مصالح أصحابها، ومحرّمة على غيرهم جميعا، مستثمرين محليين وخارجيين. وهي الخيارات التي حرمت البلاد من أي تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. وهو مكتوب في التجاهل الكلي لمطالب الناس وتطلعاتهم ومصالحهم، لحساب فئة من المحاسيب الكبار والصغار والشبيحة والجانحين، وضعت موارد الدولة والبلاد في يد مجموعةٍ من اللصوص الذين يقتتلون اليوم فيما بينهم على تقاسم كنز علي بابا وتوزيعه. وفي بنية السلطة المغتصبة، ضد إرادة الناس ومصالحهم، واستفراد مراهقٍ مفتونٍ بقرار شعب كامل ومصير أمة، من دون رقيب ولا حسيب، ولا مساءلة ولا مراجعة ولا محاسبة. وفي سياسة الاعتقال والحجْر على الكلمة، وخنق الأنفاس، وتزوير الوقائع والحقائق، والتغطية على التحدّيات والمشكلات، والقتل على الهوية الفكرية أو العقدية.
وهو مكتوب في القطيعة بين النخبة الاجتماعية والطبقة العليا من رجال المال والأعمال والمصالح الكبرى والشعب البسيط الذي فرض عليه الحصار والتهميش وانعدام الوزن باسم التقدّم والحداثة والأهلية. وفي سياسات انتقاء الأسوأ لمناصب المسؤولية، واستبعاد كل من يظهر أدنى حرص على حقوق الشعب وكرامته ومصالحه. وفي استزلام الأغلبية من رجال الدين أو إجبارهم على الاستزلام لسلطة الأمر الواقع، لقاء الأمن والسلامة والحق في معاش بالكاد يكفي لسد عوزهم وفقرهم. وفي ثقافة التشبيح وتكريس الطائفية وتغذية الأحقاد والعصبيات وروح الكراهية العنصرية. وفي أخلاق العبودية وعبادة الشخصية وتأليه السلطة والقوة وتقديس العنف والحقد والانتقام. وفي التواطؤ الجماعي ضد الدولة والقانون والعدالة من نخبة وطبقة أو شبه طبقة سائدة ونافذة، واعتقادها أن سبيل الأمن والسلام الوحيد هو الاستسلام للقوة، ومسايرة الظلمة ومشاركتهم غنائمهم ومباذلهم وترك المسؤولية على من لا حول لهم ولا قوة من الشعب المفجوع لمواجهة الضباع الضارية.
(3)
بالتأكيد، لا يضمن قانون قيصر تغيير النظام أو ربما حتى دفعه إلى تغيير سلوكه، لكنه لن يعمل لصالح تمديد أجله، بل بالعكس سوف يقود إلى حرمانه من مصادر الدعم الخارجي الذي كان السبب الرئيسي في تمديد أجل الصراع واستنزاف البلاد وقتل وتشريد ملايين السوريين. والأهم أنه سوف يشجع السوريين على الخروج من جديد للمطالبة بحقوقهم، كما حصل ويحصل الآن في محافظات عديدة، وهم وحدهم الذين سيغيرونه، هذه المرة، بعد أن حصلوا على ما كنا نسعى إليه منذ تسع سنوات، أي كف يد التدخلات الأجنبية لصالح النظام. وهذا ما كنا نصبو إليه منذ السنة الأولى للثورة باسم حماية المدنيين. كما سيدفع هذا القانون الروس الذين دافعوا عن نظام القتل سنوات طويلة، إلى التفكير في مراجعة سياستهم، إذا كانوا يراهنون على الفوز قبل غيرهم بجائزة إعادة الإعمار.
يقول بعضهم عن حق: هل يمكن الثقة بالإدارة الأميركية التي خذلتنا سنوات وسنوات؟ وما الضمانة كي لا يُساء تطبيق القانون، واستخدامه لغير صالح السوريين؟ الجواب أن التصويت على قانون قيصر يعكس انخراطا أكبر لواشنطن في القضية السورية، وفي الدفع نحو مفاوضات تفتح الطريق نحو حل سياسي. لكن ليس هناك أي ضمانة كي يتم تطبيقه، وكي لا يستغل لغير صالح السوريين، إلا عمل السوريين ومتابعتهم تطبيقه بأنفسهم، والانخراط في تنفيذه. وهذا تابع لنا ولقدرتنا على التعاون والمتابعة وتقديم الملاحظات وتصويب الأخطاء عندما تقع. إذا سلمنا أمرنا للأجهزة التنفيذية أو للكونغرس ولحسن نوايا موسكو أو دميتها السورية كما حصل حتى الآن ستكون النتيجة سلبية، وربما لن نحصد من العملية غير التعب والجهد من دون طائل، كما حصل لجهودنا الكبيرة الماضية.
من هنا، بدل أن نتنازع على الموقف من القانون، ونضيع جهدنا في خوض المعارك الماضية أو التي فاتها الزمن (كما فعلنا وكنا نفعل للأسف منذ تسع سنوات، حين أضعنا وقتنا في صراعات جانبية، وانقسمنا إلى شيع وفصائل حول الموقف من خطوات الآخرين وسياساتهم وخياراتهم الدولية أو الأممية أو العربية أو الإقليمية وقراراتهم)، يجدر بنا التعاون على بناء موقف قوي، أي مستقل وموحد للانخراط إلى جانب مشرّعي القانون في توجيه تطبيقه في الاتجاه الذي يخدم مصالحنا وتحويله إلى فرصة لاستعادة نفوذنا ومبادرتنا. وهذا يتطلب أيضا أن نعرف نحن جميعا، أو أن نتعرف ونتوافق على مضمون هذه المصالح الوطنية السورية وحدودها. وهي بالتأكيد لا يمكن بأي شكل أن تتقاطع من قريب أو بعيد مع مصالح بقاء النظام.
أما دعاية أبواق النظام، وسعيهم إلى تحميل القانون، الذي بالكاد قد وضع قيد التنفيذ، المسؤولية عن مأساة الشعب السوري، وبؤس شروط حياته الاقتصادية، فلا يمكن إلا أن تثير السخرية والاستهزاء، فالنظام لم يبق للشعب حياة، قبل ظهور قيصر بسنوات، ولا يزال مستمرا في نهب موارده القليلة، والتنازع فيما بين عصاباته، حتى بعد صدوره، على تحويلها إلى ثروات تتجمّع في البنوك الأجنبية. أما السوريون فلم يعد لديهم ما يخسرونه سوى عبوديتهم وشقائهم وجوعهم وذلهم. ولا يوجد بعد ما يمكن أن يخيفهم سوى استمرار الواقع القائم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت