قبل ثلاثة أعوام واجهت “قوات سوريا الديمقراطية”(قسد)، تحدياً عسكرياً كان الأول من نوعه في المناطق التي تسيطر عليها شرق الفرات، وتمثل بعملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا بمشاركة فصائل “الجيش الوطني”، إذ سيطرت على مساحة طويلة، تصل بين رأس العين في ريف الحسكة وتل أبيض في ريف الرقة.
ورغم أن تركيا شنت قبل ذلك عمليتين عسكريتين مماثلتين هما “درع الفرات”(2016) و”غصن الزيتون”(2018)، لكن ظروفهما وسياقهما، وجغرافيتهما كانت مختلفة بالنسبة لـ”قسد”، التي دفعتها عملية “نبع السلام” تحديداً، للإسراع في إبرام تفاهمات مع نظام الأسد وروسيا، متيحةً لهما تثبيت موطئ قدم في المناطق الخاضعة لها، كخطوة لإبعاد “شبح التقدم التركي أكثر” آنذاك.
وجاءت تلك الاتفاقيات في مسعى من “قسد” لتفضيل “الخطر الأقل” على “الخطر الأكبر”، وهي السياسة التي يبدو أن ملامحها تتكرر في الوقت الحالي، مع تلويح تركيا بشن عملية عسكرية أخرى، في ظل ترجيحات أن تستهدف منطقتي تل رفعت ومنبج في ريف حلب الشرقي.
ومنذ مطلع مايو / أيار الحالي، أكد عدة مسؤولين أترك، على رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، عزم أنقرة إطلاق العملية العسكرية، في موقف لم تقلل “قسد” منه، بل أخذته “على محمل الجد”، وفق تصريحات مسؤوليها أيضاً.
وبينما تصعّد تركيا اللهجة شيئاً فشيئاً، بدأت “قسد” بمخاطبة الجانب الروسي، إذ طالبته بالتدخل ضمن صلاحيات “الطرف الضامن” لاتفاقيات المنطقة.
فيما ذهبت مرة أخرى لتفتح الطريق أمام انتشار جديد لقوات الأسد في مناطق سيطرتها، سواء في تل رفعت أو منبج أو في المنطقة الشرقية للفرات، وخاصة محيط عين عيسى بريف الرقة، وهو ما أعلنت عنه وسائل إعلام مقربة من النظام السوري، في فترات متفرقة، بينها صحيفة “الوطن” شبه الرسمية.
“بين خطرين”
ومع ضعف قدرتها العسكرية مقارنه مع قوة الجيش التركي، تنحصر خيارات “قسد” في إبعاد التهديدات التي تتعرض لها بتفاهماتٍ مع النظام السوري وروسيا، على الخصوص.
ويرى الباحث المساعد في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”، أسامة شيخ علي، أن “قسد” لا تقدم “تنازلات مجانية”، بالاتفاق مع النظام السوري، بقدر “ما هي محاولة من جانبها للموازنة بين الخطر التركي، وخطر النظام عليها”.
ويقول الباحث لـ”السورية.نت”، إن “قسد تعتبر الخطر التركي وجودي، بينما النظام فهناك وسيط روسي يسعى لتحقيق التفاهمات”.
ويوضح شيخ علي، أنه وفي حال حصلت عملية عسكرية تركية جديدة “من غير المتوقع أن يحصل شيء مختلف عن العمليات السابقة”، مشيراً: “بذات الطريقة، وربما ستسمح قسد لدخول جزء من قوات النظام إلى مناطقها كحرس حدود”.
وهناك خيار آخر هو “الدخول في الحرب والمقاومة”، إضافة إلى آخر يتعلق بمنطقة تل رفعت على الخصوص.
ووفق الباحث: “في هذه المنطقة لا أعتقد أن قسد ستسلم المناطق كلياً للنظام، لكنها قد تنسق مع الميليشيات الإيرانية المتمركزة في المحيط. هذه الميليشيات قد تدخل على الخط، وتنتشر على خطوط التماس”.
لماذا النظام بالتحديد؟
على مدى السنوات الماضية، أسدل الستار عن الكثير من عمليات التواصل والحوار، بين النظام السوري و”قسد” عبر ذراعها السياسي “مجلس سوريا الديمقراطية”.
ولم تفض اللقاءات بين الجانبين حتى الآن، إلى نقاط وقواسم مشتركة، حيث يصر النظام على موقفه باعتبار “قسد” منظمة “انفصالية” تتعاون مع “العدو الأمريكي”.
وبالتوازي مع ما سبق، بدا الموقف الروسي وكأنه أقل حدة، حيث أنه ومنذ عام 2019 لم يتجه الروس للتصريح بكلمات مضادة لـ”قسد”، وعلى العكس ناوروا أكثر من مرة، مؤكدين نيتهم ومساعيهم على ضرورة دمجها ضمن “الجيش السوري”.
وكان مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، صرح في 17 يونيو/حزيران الحالي، أن موسكو تحاول إقناع القوى الكردية السورية، بالتسوية مع النظام، وإعادة وحدة الأراضي السورية، ودمج “قوات سوريا الديمقراطية” في صفوف “الجيش السوري”.
وقبله بأيام اعتبرت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن ضمان الأمن على طول الحدود السورية – التركية، يكمن بـ”انتشار قوات الأمن السورية”.
من جهتها ردت رئيسة الهيئة التنفيذية لـ”مسد”، إلهام أحمد، على الدعوة الروسية لدمج “قسد” بـ”الجيش السوري”، بقولها الأحد الماضي، إنه و”بدلاً من الهجوم على هذه القوات (قسد) الأجدر أن يتم الحديث عن كيفية الحل السياسي، وبالتالي دمجها مع الجيش السوري في آليات معينة هو الحل الصحيح، في ظل تشتت قوات النظام الضمني”.
وأضافت أنه “من الأجدر الوصول إلى حل صحيح”، معتبرة أن “قسد”، تحولت لـ “رقم صعب لا يمكن تجاوزه”.
و”تدرك قسد في الوقت الحالي بجميع أجنحتها أن النظام لم يقدم لها شيء، وأنه يسعى للسيطرة على المنطقة كلياً، ولا يقبل بوجودها بالكيان القائم حالياً ولا بالإدارة الذاتية”، وفق الباحث أسامة شيخ علي.
ويضيف:”النظام شروطه واضحة. أعلى سقف يمكن أن يوافق عليه هو القانون 107 للإدارة المحلية، وأن يتم دمج قسد بالجيش السوري دون أي وضع خاص. إما فيلق مثل ما حصل في درعا أو بشكل منفرد ضمن صفوف الجيش”.
من جهته يرى الكاتب والمحلل السياسي، إبراهيم كابان، أن “التحركات التركية في مجملها تعتبر دافعاً أساسياً لقسد للبحث عن حليف آخر لمواجهة التهديد”، في إشارة منه للنظام وروسيا.
ويقول لـ”السورية.نت”، إنه و”عند النظر للوضع السوري، أعتقد أن الأقرب بالنسبة لقسد هو قوات النظام السوري. غير ذلك لمن ستلجأ؟”.
ويضيف كابان أن مشهد عام 2019 يتكرر بذات التفاصيل في الوقت الحالي، معتبراً أن “تركيا هي التي تضغط باتجاه عقد الاتفاق بين قسد والأسد، من أجل دفع ثمن هو انتشار قوات الأخير على الحدود”.
“عدو عدوك سيبقى صديقك” هي عبارة يمكن أن تلخص ما يجري بين النظام و”قسد”، بحسب كابان.
وفيما يتعلق بالروس، يتابع ذات المتحدث، أن لجوء “قسد” للنظام وروسيا في الوقت الحالي، خاصة في مناطق غرب الفرات”حالة مشروعة على المستوى العسكري”.
هل من أوراق قوة؟
ولا توجد مؤشرات تتعلق بتوقيت العملية التي تهدد بها تركيا في الوقت الحالي، بينما تتباين مواقف الدول حول ذلك.
وكانت واشنطن قد اعتبرت أن العملية العسكرية التي تتوعد بها تركيا “ستهدد استقرار المنطقة”.
في المقابل أبدت روسيا أكثر من موقف، دون أن تحسم بـ”الرفض أو القبول”، في حين أكدت إيران رفضها لأي تحرك عسكري يهدد “وحدة الأراضي السورية”، وأن “الملف السوري” بات نقطة خلافية بين طهران وأنقرة.
أما “قسد” الطرف المستهدف من كل ما سبق، فما تزال تواصل القول بأن أي تهديد ستتعرض له من شأنه أن ينعكس على “الحرب التي تخضوها ضد تنظيم داعش”، والتي يدعمها التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول الباحث أسامة شيخ علي إن “قسد” تُمسك بورقة قوة في شرق الفرات، هي “الحماية الأمريكية”.
وفي حال غادرت الولايات المتحدة، يضيف الباحث: “ستلعب بورقة داعش، وربما إحيائه وأن هناك عدد كبير من المعتقلين وخاصة الأجانب”.
وعلاوة على ذلك هناك “قوة عسكرية لقسد لا يمكن الاستهانة بها، حيث لديها آلاف المقاتلين مع أسلحتهم، وإذا ماقررت المضي في المقاومة، فربما نشهد معارك قوية في المنطقة”.
ويرى شيخ علي أن أي عملية عسكرية في شرق الفرات “سيكون من الصعب إطلاقها حالياً”، مستبعداً أن يتكرر سيناريو “نبع السلام”.
وذلك ما يخالف المشهد الذي قد يكون عليه غرب الفرات، بحسب الباحث الذي يوضح أن العملية التركية فيه ستكون “حتمية”، وهو الأمر الذي تشير إليه ديناميات السياسة التركية، والفترة التي تستبق الانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها صيف 2023.
في المقابل يقرأ المحلل السياسي إبراهيم كابان بصورة مختلفة، حيث يقول إن “معظم المجموعات المسلحة، سوءاً قسد أو المعارضة أو النظام لم يعد بيدها القرار المركزي”.
ويعتبر أن “الأمر بيد التحالف الدولي وأمريكا وروسيا في الوقت الحالي”.
ورغم ما سبق لم يستبعد كابان الورقة التي تملكها “قسد” بالاتفاق مع النظام السوري، مشيراً: “هذا الأمر حقيقة، لكن المصلحة لمن ستكون؟ ومن المستفيد من عقد هذا الاتفاق؟”.