سجّل يوم الجمعة أعلى مشاركة شعبية في المظاهرة اليومية، في ساحة الكرامة في السويداء، والتسجيلات التي نقلتها صفحات مواكبة للانتفاضة أظهرت حضوراً طاغياً لـ”بيرق الحدود” الدرزي، مع تواري علمَي النجمتين والثلاث نجمات بما يرمزان إليه من موالاة ومعارضة. هتافات المتظاهرين ركّزت على المطالبة برحيل بشار، بصياغات بعضها يعود إلى ثورة 2011 وبعضها الآخر مستحدث، وكذلك هي الهتافات التي تنادي بوحدة السوريين أو استردادهم بلدهم من سيطرة الأسد.
يوم الخميس كانت الساحة قد شهدت قراءة رسالة “بالانكليزية” موجَّهة إلى مجلس الأمن والبرلمان الأوروبي، يستعرض أصحابها محطات رئيسية من جرائم الأسد منذ عام 2011، لتنتهي الرسالة بالمطالبة بوضع القرار 2254 تحت الفصل السابع، وباللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة في حال استخدمت موسكو وبكين الفيتو، من أجل وضع القرار تحت الفصل السابع وإنشاء محكمة خاصة بسوريا لمحاسبة جميع مجرمي الحرب. الرسالة التي تمثّل بعض المنتفضين اعترض عليها بعضهم الآخر، وتم تجاوز الخلاف بلا تبعات لاحقة على الحراك. إلا أن هذا النموذج في التجاوز قد لا يحدث لاحقاً، أو من دون آثار سلبية في النظر إلى الحراك من خارجه، ما يجعل الاتفاق على خطوط عريضة يلتزم بها المحتجون ضرورة ملحة لهم أولاً، ولرسالة الحراك التي يودّون إيصالها إلى عموم السوريين تالياً.
وكنا في الأيام السابقة قد شاهدنا صوراً للافتات فردية مرفوعة، يغلب عليها همّ ثورة 2011، وكأن الناشطين الذين حملوها يريدون استدراك ما فاتهم خلال السنوات الماضية. وإلى جانب ذلك حضر العلم الذي صار يرمز إلى الثورة، وحضر مرةً جنباً إلى جنب مع العلم الذي يرمز إلى السلطة، وكذلك حضرت لافتات ذات عناوين عديدة تنتمي إلى الهم ذاته. نستطيع في المقابل الإشارة إلى غياب التمييز بين روحية ثورة 2011 وبين ما آلت إليه، فإذا كانت الانتفاضة الحالية وما سبقها وما قد يليهما تنتمي جميعاً إلى رفض سلطة الأسد، والتطلع إلى غد ديموقراطي، فإن الوفاء لهذه الروحية يقتضي تجنب الأوحال التي غاصت فيها ثورة 2011 أو أُجبرت أحياناً على الغوص فيها.
واقعياً، من الأولى أن يتوجّه همّ ورسائل انتفاضة السويداء إلى السوريين تحت سيطرة الأسد، لأن الذين خارج سيطرته متحمّسون سلفاً لأية ثورة ضده، وتظاهرهم للتضامن مع السويداء لا يتعدّى البعد المعنوي من دون أن نبخسه قيمته. نذكّر بأن تقسيم سوريا الحالي متّفَق عليه دولياً وإقليمياً، ما يؤكد على أهمية الثورة على الأسد في مناطق سيطرته، وعلى مخاطبة المتضررين منه هناك وقد باتوا يشكّلون الأغلبية الساحقة، ومن المرجح أن تختلط لدى معظمهم عوامل النقمة والخوف.
من المحتمل جداً أن نسبة غالبة من هؤلاء تشاطر انتفاضة السويداء القناعة بمسؤولية الأسد عمّا آلت إليه أحوالهم، والتركيز على هذا المشترك يدحض ما يُروّج من هنا وهناك عن “الاستثناء الدرزي”. ومن المرجَّح أن عدم استخدام الأسد العنف حتى الآن، رغم أنه وسيلته المحبَّبة، يندرج في إطار عزل ومحاصرة السويداء بفكرة الاستثناء، حتى يضمن عدم انتشار عدوى الثورة خارجها، فيعود مرتاحاً إلى ممارسة ما يهوى. استثناء درعا مختلف، وتتخلله أطوار من استخدام العنف لم تفلح حتى الآن في كسر إرادة أهلها.
وفي إطار ما هو معروف عن تلهّف الأسد إلى العنف والانتقام، ربما يكون ملجوماً عن ذلك بإرادة من حلفائه، وليس بجديد على السوريين أن تدير موسكو أو طهران ملفات خاصة بهم، وأن يقدِّم الحليف نفسه بديلاً يمكن الحوار معه بخلاف مَن لا يعرف سوى البطش والتنصّل من وعوده. هنا أيضاً مساحة يجدر بمنتفضي السويداء التفكير فيها جيداً، فاتخاذ موقف جذري من الأسد مبرَّر تماماً، لكن اتخاذه بالتلازم مع المطالبة بانسحاب روسيا من سوريا يغلق هامشاً من المناورة قد يكون لازماً. ومع التنويه بأن التدخل الروسي حظي برضا دولي، وإقليمي إلى حد ما، قد يكون بعض المطالب موجَّهاً إلى الحليف الروسي كي يستجيب إلى نداء التغيير، وحتى إذا كانت استجابته مستبعدة فربما يكون تحاشي التصويب عليه تحديداً أفضل من استعدائه منذ البداية.
في كل الأحوال، لا تكفي المراهنة على أن الأسد لن يستخدم العنف، فعامل الوقت قد يخدمه إذا لم تنتشر عدوى الثورة خارج حوران. هذا أيضاً سيناريو ينبغي التحسب له، ولا يفيد في تحاشيه مطالبة الأردن إعلامياً بفتح ممر كي لا تقع السويداء تحت الحصار، ما لم يكن هناك تواصل مع السلطات الأردنية التي يمكن أيضاً من خلال موقفها استكشاف بعض المواقف الدولية والإقليمية. وهذا كله يلحظ السويداء فقط، من دون مناطق جرمانا وصحنايا وحي التضامن بغالبيتها الدرزية “في محيط دمشق”، وهي لن تبقى طويلاً خارج المعركة.
خلال أسبوعين مضت الانتفاضة بعيداً، ومن دون عقبات، إذ يسهل القول اليوم أن السويداء محررة، إذا كان هذا هو الهدف، وما سيأتي لاحقاً هو تدبّر تبعات التحرير. ما يمكن فهمه من خطابات المرجعية الروحية، تحديداً من خطابي الشيخ الهجري والشيخ الحناوي في اليومين الماضيين، لا يصبّ في منحى الاحتفال بالتحرير، بل قد أعادا التأكيد على البعد السوري للانتفاضة، وعلى الإصرار على الاستمرار فيها والتصدي لأي عنف مقابل.
هذا الوعد السوري، إذا جاز التعبير، هو ما يُخشى تبديده سريعاً، ليقتصر ربيع السويداء عليها وحدها، وبذلك تنضم إلى ثورة 2011 إذ تُضعف الأسد من دون النجاح في إسقاطه. ما أظهره أهل السويداء حتى الآن يدعو إلى التفاؤل بأن “نشوة الثورة” لن تسكرهم، ولا نشوة مادحيها من المتابعين. وهو ما يجعلنا نطمع في أن يمتلك الحراك خطاباً يليق بنوايا أصحابه، خطاباً جامعاً لا موحَّداً، يتجاوز اللحظة الحالية المتروكة لخطابات المرجعية الروحية العمومية، ولاجتهادات اللافتات في الساحة حيث كلّ يغني على ليلاه في غياب منهجية متفق عليها.
قبل أسبوعين، كان السؤال عن الثورة التي قد تفاجئنا من بؤر عديدة في سوريا، وتقدّمت السويداء وحدها، إذا احتسبنا درعا على الثورة الفائتة. بناءً على مفاصل في التاريخ، يرى أهل السويداء أنهم أهل الوطن السوري، ومن المؤكد أنها مهمة شاقة جداً “وغير مضمونة النتائج إطلاقاً” مساعدةُ التاريخ على أن يعيد نفسه.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت