كيف ترد روسيا المُهانة في أوكرانيا في سورية؟
يبدو أن روسيا في طريقها إلى أخذ جرعة، قد تكون كبيرة، من الإذلال الذي يمارسه الغرب تجاهها. ويبدو أن تقديرات الكرملين عن قدرته على إرعاب الغرب ودفعه للنظر إلى روسيا فاعلاً دولياً من الدرجة الأولى ذهبت أدراج الرياح، مع إهمال عواصم الغرب التحذيرات التي أطلقتها روسيا، وما طلبته من ضماناتٍ لن تجد صدى تلبية لها في الوقت الراهن.
المأزق الذي تجد روسيا اليوم نفسها به هو ناتج الفجوة بين سقف مطالبها العالي وإمكاناتها الحقيقية، ما يجعل تهديداتها بلا وزن، في ظل موازين قوى مختلة لغير صالحها، في عالم يضع معايير صارمة للقوة، ومقاييس ومؤشّرات، لا تملك روسيا منها سوى عنصر او اثنين، من ضمن حزمة كبيرة، وهو ما لا يؤهلها للوقوف في الصف الأول بين عالم أخذ في الاقتصار على قوتين، الولايات المتحدة والصين، فيما روسيا وأوروبا في الصف الثاني، مع وجود مستوياتٍ عديدةٍ أيضاً ضمن هذا الصف.
ولعل المتابع للحركة الروسية، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، يلحظ أن سلوك هذه الدولة وفعاليتها ركّزا، في السنوات التالية، على تحصيل اعتراف غربي بمكانتها ودورها، وكان الهدف من كل ما قامت به دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً صناعة مسار يوصلها إلى مكانة مفقودة في النسق الدولي الذي تجاوز بمراحل، وبمعاييره ومقاييسه، ما بعد العولمة، إمكانية ضم روسيا إلى نادي الكبار، وظلت تقف على أعتابه في مكانةٍ هي أقل من قوة عظمى، وأكبر من دولة إقليمية.
في مرحلة أولى، في طريق البحث عن المكانة، تمسّكت روسيا بأسلحتها النووية، باعتبارها بطاقة عبور واقعية إلى استعادة مكانتها، لكن النادي النووي، في ذلك الوقت، أضاف لعضويته أعضاء جدد ليسوا مصنفين بالضرورة ضمن المقرّرين في النظام الدولي، الهند وباكستان وجنوب أفريقيا، ودول أخرى لديها البنية التحتية والإمكانية للتحوّل إلى قوّة نووية إن أرادت، اليابان، وبالتالي بات هذا العنصر غير كافٍ ليصبح مالكه، عضواً، بشكل أوتوماتيكي، ضمن المؤثرين دولياً.
وفي مرحلة ثانية، اعتقد صانع القرار الروسي أن شركة غاز بروم هي بطاقته للتحوّل إلى قوّة عظمى، نظراً إلى أهمية الطاقة في التفاعلات الدولية الحديثة، ومركزيتها في الاقتصاد العالمي، إلا أن الوقائع ستكشف أن الوزن النسبي لهذا العنصر، مع أهميته، ليس كبيراً بالدرجة التي يتصوّرها الروسي، بالنظر إلى البدائل العديدة عن مصادر الطاقة الروسية، كما أن روسيا المحتاجة جداً عوائد النفط والغاز لن يكون في مقدورها استخدام هذه الورقة في المساومة الدولية.
المرحلة الأخطر في مساعي روسيا للوصول إلى لقب الدولة العظمى كانت في تدخلاتها الخارجية في ملفات دولية، يمكن القول إنها مهملة دولياً، مثل سورية، أو لا تفضل الأطراف الدولية الانخراط فيها، نظراً إلى تعقيداتها ومخاطرها، مثل الأزمة الليبية، أو مالي وأفريقيا الوسطى.
تميّز السلوك الروسي في هذه المرحلة بالتوحش والخروج عن أي منطق أو مراعاة لأي قانون، وخصوصا في سورية. أرادت روسيا من ذلك الخروج من الوضع المذلّ الذي وضعها فيه الغرب سنوات طويلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لذا مارست أقصى درجات العنف، في ظل سياسة أميركية اتسمت بالانتهازية إلى أبعد الحدود، عبر إستراتيجيةٍ أُريد منها إغراق روسيا، بأحلامها وشغبها وشغفها، في بلاد الرمال والموت، على ما أضمر باراك أوباما، وصرّح دونالد ترامب.
كانت أوكرانيا وجورجيا ولاتفيا في صلب حسابات أميركا والغرب في تسهيل طرق روسيا صوب الشام، فكل ما سيصرفه من طاقةٍ هناك سيخفّض من رصيد (ومخزون) عدائيته تجاه هذه البلدان، إذ سيكون محرجاً للغرب السكوت عن تصرّفات بوتين تجاه دولٍ تعتبرها جزءاً من مجالها الحضاري، على عكس قبائل الشام وصحاريها. ولكن بوتين لم يحسب الأمر على هذه الشاكلة، فقد وضع ما اعتبرها انتصارات محقّقة في سورية ضمن رصيده قوة عظمى يجب أن يكون لها “عمق حيوي” في أوروبا، وأرض حرام لا يجوز لحلف الناتو، ولا الاتحاد الأوروبي، الاقتراب منها، وتحديداً أوكرانيا التي كانت، حتى وقت قريب، جزءاً من الدولة الروسية، حتى قبل بروز الاتحاد السوفييتي.
بوتين اليوم في مأزق، منذ خمس سنوات والماكينة الروسية تستخدم التهويل والتضخيم في إبراز قوّة روسيا التي جربت أكثر من ثلاثمائة سلاح في سورية، وأعادت هيكلة قواتها العسكرية لتتناسب مع منطق الحروب الحديثة، واستطاعت إجبار أقطاب عالمية كثيرة على احترام المعادلات التي تم صنعها في هذا البلد المنكوب، فكيف ستترجم ذلك كله في ردع خصومها الغربيين الذين يرفضون السماح لها بمزيدٍ من قضم أراضي أوكرانيا؟ المرجح أن بوتين سيبتلع كأس السم في أوكرانيا، لكنه سيتقيأه في سورية. كل شحنات الذل التي سيحملها من ملف أوكرانيا، سيفرغها عنجهيةً على سورية، سواء عبر مزيد من الإذلال لتابعه بشار الأسد، او فرض اتفاقياتٍ مذلة على النظام السوري، وربما مزيد من الضربات على رؤوس السوريين، فقدر هذه البلاد أن تكون ملعباً لدولةٍ أذلّتها البيئة العالمية، لكن التاريخ أيضاً يفيد بأن دولة صغيرة، بحجم فنلندا، أذلّت الاتحاد السوفييتي وبقيادة ستالين، حين تصوّر أنه قادرٌ على جعلها عبرة لخصومه الأوروبيين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت