في لقاء أجراه الصحفي الألماني “تيلو يونغ”، مع “كريستوف رويتر”، مراسل دير شبيغل للشؤون الدولية، والذي فاز بجائزة أفضل صحفي لعام 2015م في ألمانيا، ومؤلف كتاب (السلطة السوداء، الدولة الإسلامية واستراتيجيو الإرهاب) سأله فيه:
هل تريد مقابلة بشار الأسد؟
فأجابه: سابقاً ربما.. لكن ليس الآن.. ربما بعد خلعه من السلطة.. لعل السؤال الذي يدور في رأسي دائماً، وأريد سؤاله له، هو: هل تصدق ما كنت ترويه بنفسك، لماذا حولت هذه البلاد إلى أنقاض؟ لأجل ماذا؟
بالتأكيد ليس “كريستوف رويتر”، هو الوحيد الذي يدور في ذهنه هذا السؤال، بل يمكن القول ببساطة إن مئات الملايين حول العالم، وفي مقدمتهم السوريون يسألون ذات السؤال:
لماذا حولت هذه البلاد إلى أنقاض؟
منذ أكثر من أسبوع، قام بشار الأسد بزيارة إلى مدينة حمص، وفي “المركز الوطني للمتميزين”، أتحفنا كعادته بسفسطة طويلة عن المؤامرة، والإرهاب، والجهل، وأهمية الحوار، والوفاء للوطن، إلى آخر هذه المعزوفة السمجة، والتي يكررها منذ أكثر من عقدين، لكأنّ ما يحتاجه السوريون الذين لا يجدون ما يأكلونه، ولا تصل الكهرباء إلى بيوتهم، وتجتاحهم المصائب والأوبئة من كل الجهات، ويعيش 90% منهم بأقل من دولار باليوم، هو فقط محاضرة عن الوطن والوفاء له؟!!
ليست المشكلة في عدم اعتراف بشار الأسد بمسؤوليته عما جرى في سوريا، وعن الحرب التي تسببت برأيه في إعادة سوريا عقوداً إلى الوراء، فما من طاغية اعترف يوما بأنّه كان على خطأ، بل إن المشكلة تكمن أساساً في حالته النفسية المرضية التي توهمه أنه يمتلك قدرات ومواهب فائقة، وتغرقه في هذيان واضح ومستمر، فلا يعرف أين الحدود التي تفصل الواقع وحاجاته عن الوهم، وتجعله دائماً أسير أوهامه وتخيلاته غير العقلانية، والتي رسّخت في ذهنه، لدرجة يستحيل فيها أن يقتنع أن ما يقوله ويشعر به غير صحيح، حتى لو كان بين يديه آلاف الحقائق الدامغة، المناقضة لما هو مقتنع به.
في علم النفس يطلقون على هذه الحالة “جنون العظمة” (Grandiose delusions)، ومن أهم أعراضها هو شعور الشخص الدائم أنه لا يخطئ، وأنّه دائماً على حق، وأنّه قادر على التحدث بإطلاق حول أي أمر، فيكثر في الكلام، وينتقل من موضوع إلى آخر من دون توقف، ودون أي ترابط بين المواضيع التي يتحدث عنها، ولا يتوقف عن الكلام أبداً، والأدهى أنّه شديد الاقتناع بأن له دوراً مهماً في العالم.
ببساطة شديدة، وكما لو أنه حقق لبلده من الإنجازات، ما لم يستطع أحد في التاريخ فعله، لم يتردد بشار الأسد لحظة واحدة في اتهام آخر ثلاثة رؤساء أميركيين بنقص الخبرة السياسية، هكذا، وبمنتهى الخفة والحماقة يستطرد موضحاً “إن شَغْل منصب وزير الخارجية، أو مقعد في الكونغرس لسنوات لا يعني امتلاك صاحبه الخبرة”، وبغض النظر عن مدى صوابية هذا القول أو سطحيته، فإن الحد الأدنى من القدرة على المحاكمة المنطقية، ستمنع شخصا بلا أي تجربة سياسية، ووصل إلى موقع الرئاسة بالوراثة وبالقوة، ودمّر بلده وجعله أنقاضاً، من أن يتحدث عن الخبرات كمقدمة لتسلم المسؤولية!!.
في مقابلة له مع قناة «إس بي إس» الأسترالية، وصف بشار الأسد الساسة البريطانيين بأنهم منفصلون عن الواقع، ثم أضاف: “أسميهم في بعض الأحيان ساسة من الدرجة الثانية”، معتبراً أن العلة إنّما تكمن أساساً في النظام الديمقراطي الأوروبي، الذي يوصل أشخاصا عاديين إلى مواقع القرار، مرة أخرى يحضر السؤال البديهي، عن طبيعة النظام الذي أوصله إلى موقع القرار، كي نقارنه بالنظام الديمقراطي الأوروبي، وعن مدى قدرته على محاكمة أبسط الأمور خارج جنون عظمته وأوهامه؟!!
يقول “ديفيد ليش”، الأستاذ المُتخصّص في التاريخ وسياسة الشرق الأوسط، وصاحب كتاب “أسد دمشق الجديد”، الصادر عام 2005م، والذي كتبه بعد لقائه لساعات طويلة مع بشار الأسد، إنه اتصل ببشار بعد إعادة انتخابه في عام 2007م سائلاً إياه عن رأيه بفوزه الكاسح، ليجيبه بشار بكل ثقة: “بالطبع، هذا لأنّ النّاس يحبّونني”، ويضيف ديفيد ليش: “المشكلة أن الأسد لم يكن يكذب، لقد كان مقتنعاً تماماً بأنّ النّاس يحبّونه بالفعل”!!
الوجه الأهم للمشكلة التي أغرقت سوريا ودمّرتها، إنّما تكمن في نشأة بشار الأسد، وطبيعة عائلته التي لم تحكم سوريا بوصفها دولة ذات نظام جمهوري، لها مؤسساتها ونظمها وقوانينها، بل حكمتها بوصفها مزرعة لعائلة ملكية، عائلة تقتنع حد اليقين أنها “تملك البلاد بأكملها”، أليست سوريا وفق الإعلام الرسمي هي “سوريا الأسد”؟!، لذلك، وعلى ضوء هذه القناعة، ومثل أي “مافيا”، فإنه من الطبيعي أن تنعدم الحدود الفاصلة بين العائلة ومورد رزقها، أو مصدر دخلها، وتصبح العائلة وما تملكه (الدولة السورية في حالة عائلة الأسد) شيئا واحدا، ولهذا كان من الطبيعي أن يتصرف بشار وماهر الأسد كما يرغبان في ملكيتهما، وأن تكون عائلة الأسد حتى أصغر فرد فيها معنية بالدفاع عن ملكيتهم لسوريا، وأن يكون شقيق أنيسة مخلوف (محمد) وأولاده جزءا من العائلة، ولهم الحق في تقاسم سوريا، ليس هذا فحسب بل لهم الحق بقتل، وتهجير، وتشريد من يرى غير ذلك.
عندما أُرغم السوريون على القبول به رئيساً، توهموا أنه قد يختلف عن والده، وحتى عن أخيه الذي كان يُعَدُّ لأن يكون طاغية آخر، وأنه بتركيبته الخجولة لن يستطيع أن يكون متوحشاً كباقي عائلته، فانتظروا، لكن أحداً لم يقل لهم أنه يمتلك أهم ثلاثة عوامل ليكون طاغية ومتوحشاً، وهي:
تاريخ عائلي يحضر فيه العنف والقوة، كعامل حاسم في العلاقة مع الآخر.
بيئة أُسَرية قلقة ومضطّربة: أم مِزاجية قادمة من بيئة قروية، وجدت نفسها بموقع قوة مطلقة، وأب غائب معظم الوقت، وساديّ عند حضوره، ومعايير النجاح لديه تكمن في القدرة على التسلط والسيطرة.
شخصية تعاني من الازدراء، ولا يعول عليها في منطق الأب الطاغية، خجولة، وتتعرض للتنمّر والقسوة من قبل إخوته في طفولته.
حين نريد التحدث عن السلوك الوَحشيّ لبشار الأسد، علينا أن ننتبه جيداً لركيزتين أساسيتين: الأولى مستمدة من سيرة النظام الذي رسّخه والده بعد وصول إلى السلطة، وهي سيرة نظام لم يجد نفسه خارج إطار القمع والاستبداد والعنف الدموي، وخارج تغوّل القوّة الأمنية والمُخابراتية، أمّا الركيزة الثانية فتتعلق بشخص بشّار الأسد ودوافعه، وغرائزه، ووهم العظمة الذي يرد به على دونية سابقة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت