الضخ الإعلامي الكبير الذي رافق عملية تمرد قوات فاغنر بقيادة يفغيني بريغوجين الملقب بـ “طبّاخ بوتين” كان يحدث من جهات مختلفة، فالإعلام الغربي صوّر الأمر بأنه تمردٌ عسكري قد يطيح بسلطة زعيم الكرملين فلاديمير بوتين، في وقت كانت رسائل وتغريدات بريغوجين تقول بأنه عازم على اعتقال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة أركان الجيوش الروسية، فاليري غيراسيموف، اللذان طعنا قواته من الخلف.
الإعلام الروسي اتهم قوات فاغنر بالخيانة، إذ سحب قواته من أوكرانيا ودخل الأراضي الروسية. هذا الاتهام يمكن إضافته إلى سيل التكهنات والأخبار التي لم تتمكن من إضاءة هذا التمرد وحقيقته.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد قالت على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن: “إن محاولة التمرد المسلح في روسيا تظهر تصدعات حقيقية في سلطة الرئيس بوتين، وإن تمرد مقاتلي مجموعة فاغنر كان تحدياً مباشراً لبوتين، مما أجبره على إبرام اتفاق عفو”.
هناك من قال عن تمرّد قوات “فاغنر” بأنه عمل متفق عليه بين زعيم هذه القوات وبين الرئيس بوتين، وهذا حديث من يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن ما جرى لا يمكن وضعه في هذا الباب، خاصة أن الأمر كان صراعاً جدياً بين مكونات سلطة بوتين الأولغارشية. فوزير الدفاع ورئيس الأركان هما شخصان مقربان جداً من الرئيس الروسي، وفي نفس الوقت يحسّان بخطر قوات “فاغنر” على وجودهما في السلطة، إذ كانا في مرمى نيران اتهام بريغوجين لهما، والتهمة التي ساقها هي أن قوات الجيش الروسي قصفت قوات فاغنر في أوكرانيا من الخلف، وهذه حجة لمواجهة هاتين الشخصيتين المقربتين من بوتين.
لكن بريغوجين هو الآخر تجمعه ببوتين علاقة قوية، وقد قام بمهام عسكرية في أكثر من بلد دعماً لجيش صديقه، ولهذا فهو يرى أن ما قامت به قواته في أوكرانيا يستحق الثناء، وليس الطعن في الظهر، وهذه الحالة هي التي دعته إلى سحب قواته من أوكرانيا ودخول مدينة روستوف الحدودية، من أجل الزحف نحو موسكو لعزل وزير دفاعها ورئيس أركان جيشها.
هذه الحالة، كشفت عن هشاشة حقيقية في الوضع العسكري الروسي، فبوتين القائد الأعلى للجيش الروسي، لم يكن بصورة الصراعات المحتدمة بين قادة جيشه وقوات فاغنر وزعيمها، فالأمر هو صراع مستتر على الإمساك بحظوة أكبر لدى الرئيس الروسي، تؤهل صاحبها لخلافته، وهذا سرّ الصراع الذي تفجّر قتالاً داخلياً.
الهشاشة هي حقيقة الوضع الداخلي في روسيا، فالأولغارشية الروسية ليست منسجمة في مكونها الرئيسي، وبالتالي فإن إدارة الصراع التي يتحكم بها الرئيس بوتين، لم تكن نتيجة لأمور كثيرة واضحة لدى الأخير، وهذا ما يجعل الصراع غير منته، ومن قال أنه انتهى فهو واهم، فهذا الصراع يتعلق بالبنى الداخلية لمكونات الأوليغارشية الروسية، وهي ليست متممة لبعضها، وليس برنامجها السياسي واحد، والدليل على ذلك، أن بعض مكوناتها رفض الحرب على أوكرانيا، وكان يريد تقارباً مع المجموعة الغربية ضمن أطر تعاون غير خاضعة لمبدأ “أنني موجود، وأنك يجب أن تعترف بذلك”.
الذين رفضوا حرب بوتين على أوكرانيا كانوا قد قرأوا الوضع السياسي والعسكري لروسيا من جهة، وللعالم الغربي الداعم لأوكرانيا من جهة أخرى، فرأوا الاختلال في موازين القوى عيانياً تميل لمصلحة الغرب وأوكرانيا، وأن غطرسة رئيسهم بوتين لا يمكنها تحقيق النصر على أوكرانيا واستعادتها إلى البيت الروسي. وهم أيضاً أدركوا أن الغرب يجيد إدارة اللعب بالاقتصاد العالمي، مما يجعل استنزاف روسيا زمنياً ليس في مصلحة بقائها دولة اتحادية.
“طبّاخ بوتين” كان يعتقد أن تمرده على وزير الدفاع سيدفع بقوى المعارضة للوقوف خلفه، وهذا خطأ سياسي لدى بريغوجين، فهو لا يفهم بنى قوى المعارضة، وآليات اتخاذ المواقف فيها، ولعله يفهم باستخدام القوة العسكرية المفرطة لتحقيق نصر سريع، دون إدراك أن نصره المعني يمكن تحقيقه في مناطق ذات قوى عسكرية ضعيفة.
بوتين الذي عرف بالعاصفة العسكرية لقوات فاغنر، أحس بأن القوات العسكرية الموالية له بدأت بالتصدع، وهذا تهديد حقيقي لقوته العسكرية وصلابة حكمه، وبالتالي كان لا بدّ من حلٍ سريع يُنهي حالة التصدّع، لذلك فُتح الباب أمام رئيس روسيا البيضاء “لوكاشينكو” ليلعب دوراً وسيطاً في نزع فتيل التصدع، فبوتين لم يكن قادراً على اللعب بأرواح الروس الذين يحاربون مع بريغوجين.
لو ذهب بوتين إلى ممارسة خيار السحق العسكري لقوات فاغنر، لواجه حرباً داخلية ستنهي ليس نظام حكمه فحسب، بل ستنهي الاتحاد الروسي وتمزقه.
وفق هذه الرؤية، يمكن طرح السؤال التالي: هل وضع روسيا عسكرياً وسياسياً قبل تمرد فاغنر سيبقى على حاله بعد التمرد؟
الجواب بسيط وواضح وشفّاف، فقبل تمرد فاغنر كانت هشاشة الوضع العسكري والسياسي لسلطة بوتين يلفها شك وحذر في التقييم، أما بعد التمرد وسرعة تقدم قوات فاغنر نحو موسكو فالتقييم مختلف، إذ اتضح أن امبراطورية بوتين ليست أكثر من نمر ورقي، وهذا سيفيد الغرب في كيفية استدراجه إلى مربعٍ يشلّ قدراته ويسقطه من داخله.
لا يريد الغرب إسقاط بوتين عبر استخدام قوته العسكرية، بل يريد خلق مزيد من التناقضات الداخلية بين مكونات سلطته من جهة وبين سلطته وقوى المعارضة الروسية، التي هي الأخرى باتت على قناعة بقدرتها أن تطيح بنظام حكمه الأوليغارشي.
هذه الرؤية الغربية تمنع بوتين من حماقة كبرى قد ينزلق إليها عبر استخدامه السلاح النووي ضد أعدائه.
مع ذلك، ينبغي القول أن بوتين خسر الحرب الأوكرانية بعدما انكشف ضعفه في كل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأن سقوطه سيفتح الباب لسقوط في غير ساحة وبلد ونظام طغاة، ومن بينها نظام أسد المحمي بوتينياً.
إنها نهاية الصلف و”الزعرنة” على الشعوب، وليس في كل مرّة ستسلم الجرّة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت