لماذا لم تتدخل روسيا في الصراع على قره باغ حتى هذه اللحظة؟
تقليدياً، تعد روسيا الحليف الأوّل لأرمينيا في الصراع الجاري مع أذربيجان وهو ما مكّن يريفان من الاحتفاظ بحوالي ٢٠٪ من أراضي أذربيجان تحت سيطرتها خلال ما يُقارب ال٣٠ عاماً الماضية. وبالرغم من إنشاء مجموعة مينسك التي تضم موسكو إلى جانب كل من باريس وواشنطن للتعامل مع هذه الأزمة، لم تستطع المجموعة إنجاز أي تقدّم ملموس خلال تلك الفترة. في حقيقة الأمر، بدت المجموعة غير متوازنة أصلاً نظراً لقرب فرنسا من أرمينيا بالإضافة إلى قوّة اللوبي الأرمني في الولايات المتّحدة الأميركية، وهو الأمر الذي عقّد من موقف أذربيجان وجعلها تحاول التقرّب من موسكو على أمل أن يخفّف ذلك من دعم الأخيرة ليريفان.
لم تنجح مساعي أذربيجان خلال العقود الثلاثة الماضية في كسر الجمود الحاصل في الوضع القائم مع أرمينيا، كما لم تغيّر الاشتباكات التي كانت تندلع بين الفينة والأخرى بين الطرفين من المعادلة. لكن يبدو أنّ هناك مجموعة من العوامل التي استجدت مؤخراً وتجعل الاشتباك العسكري الجاري حالياً مختلفاً عمّا سبقه ليس لناحية الكيف والحجم فقط، وإنما لناحية الموقف الإقليمي أيضاً. من أهم هذه العوامل التي يمكن الإشارة إليها:
أولا، وفقاً للمعلومات المتوافرة حتى هذه اللحظة، استطاعت القوات المسلّحة الأذربيجانية تحقيق تقدّم ميداني وتحرير عدد من القرى على حدود المنطقة المحتلة في جبهتين منفصلتين، وهو أمر يحصل للمرة الأولى. علاوةً على ذلك، لم تكتف أذربيجان بما حصلت عليه وإنما تحاول التقدّم أيضاً، وهذا بحد ذاته مؤشر على وجود توجّه جديد يهدف على الأقل إلى استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي قبل تدخّل حلفاء أرمينيا.
ثانياً، عكست لهجة الخطاب الرسمي الأذربيجاني موقفاً صارماً إزاء ضرورة تغيير الستاتيكو الذي كان قائماً، وبغض النظر عمّا إذا كان هذا الأمر حقيقياً أم مجرّد مناورة سياسية لزيادة الضغط على أرمينيا، فإنّ حدّة الخطاب تشير إلى أنّ هناك عنصراً ما قد غيّر من حسابات باكو وجعلها أكثر إصراراً على تغيير المعادلة. هل يتعلق ذلك بموقف تركيا؟ أو بموقف روسيا؟ ام أنّ أذربيجان رأت أنّ هناك فرصة سانحة الآن بسبب الظروف الإقليمية والدولية وأنّ عليها استغلالها؟
ثالثاً: خلال اليومين الماضيين، ومع تراجع أرمينيا وتقدّم أذربيجان، قامت الأولى بقصف تجمعات سكنية مدينة تماماً داخل أراضي أذربيجان بعيداً عن المناطق المحتلة التي تجري المعارك قربها، لعلّ أبرزها مدينة كنجة، ثاني أكبر مدن أذربيجان وتبعد حوالي ١٠٠ كلم عن مناطق الاشتباكات الأساسية. كما أشار الجانب الأذربيجاني إلى أنّ يريفان تحاول استهداف مرافق حيوية مدنيّة بصواريخ بالستية، وهو ما قد يكون مؤشراً على مدى يأس أرمينيا ومحاولتها استجلاب التدخل الخارجي من خلال استهداف المدنيين وتصعيد الصراع.
رابعاً: ردّة الفعل البطيئة من قبل حلفاء أرمينيا التقليديين، وعدم المسارعة إلى مساعدتها بالشكل الذي كان يجري عليه الحال سابقاً، أو بالشكل الذي كانت يريفان تتوقعه ربما من حلفائها. الجانب الإيراني في وضع لا يحسد عليه داخلياً وإقليمياً، وهو يعيش حالة تداعي غير مسبوقة ويخشى في نفس الوقت أنّ يؤدي الدعم العلني لأرمينيا أو مساعدتها بشكل مكشوف إلى ردّة فعل لدى مواطنيها الأذربيجانيين. لكن ماذا عن روسيا؟
هناك تفسيران على الأقل للموقف الروسي. الأوّل أنّ موسكو متمدّدة إقليمياً بشكل غير مسبوق من الناحية العسكرية، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى أنّها بصدد تحصيل عائد اقتصادي لهذا التمدد
ما يعني أنّ الانخراط في مزيد من الساحات سيكون بمثابة عبء إضافي عليها لاسيما مع بروز أزمة روسيا البيضاء مؤخراً. فضلاً عن ذلك، فإنّ الاعتراف الدولي باحتلال أرمينيا لإقليم “ناغورني قره باغ” يجعل قدرة روسيا على المناورة من أجل دعم أرمينيا محدودة.
أمّا الثاني فهو أنّ موسكو كانت تراقب خلال السنوات القليلة الماضية تنامياً ملحوظاً في العلاقات الأرمنيّة مع الغرب، ولذلك فهي لا تمانع أن ترى يريفان تتعرض للمزيد من الضغوط بفعل الموقف الأذربيجاني إلى أن تضطر إلى طلب المساعدة بشكل واضح أو تسعى إلى تدخّل صريح لروسيا في الأزمة. موسكو لن يكون لديها مشكلة على الأرجح سيما وأنّنا مقبلون على انتخابات رئاسية أميركية وبالتالي فإنّ يدي البيت الأبيض قد تكون مكبّلة أمام أي تدخل عنيف لروسيا خاصة إذا ما جاء في التوقيت القاتل لواشنطن.
هناك عامل إضافي أيضاً يرتبط بالعلاقة مع تركيا تحديداً. التدخّل الروسي المباشر في الصراع لصالح أرمينيا قد يمهّد الطريق لاشتباك إضافي مع تركيا في وقت تزداد فيه العلاقة بين الطرفين في سوريا وليبيا تعقيداً. بعض المعلومات تعزو التصعيد العسكري الحاصل إلى رفض موسكو مقترحاً تركياً لتأسيس آلية مشتركة مع روسيا شبيهة بتلك القائمة في سوريا وليبيا لإنهاء الأزمة الأذربيجانية- الأرمنيّة. إذا ما صحّت هذه المعلومات، فقد لا نرى وقفاً للعمليات العسكرية قبل تشكيل مثل هذه الآلية الثنائية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت